[٤٦ ـ ٤٧] (وَلا تَنازَعُوا) تنازعا يوجب تشتيت القلوب وتفرقها ، (فَتَفْشَلُوا) أي : تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي : وتنحل عزائمكم ، وتفرق قوتكم ، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة الله ورسوله. (وَاصْبِرُوا) نفوسكم على طاعة الله (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالعون والنصر والتأييد ، واخشعوا لربكم ، واخضعوا له. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه ، وهذا الذي أبرزهم من ديارهم ، الأشر والبطر في الأرض ، وليراهم الناس ويفخروا لديهم. والمقصود الأعظم : أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل الله ، من أراد سلوكه ، (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فلذلك أخبركم بمقاصدهم ، وحذركم أن تشبهوا بهم ، فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة. فليكن قصدكم في خروجكم وجه الله تعالى ، وإعلاء دين الله ، والصد عن الطريق الموصلة إلى سخط الله وعقابه ، وجذب الناس إلى سبيل الله القويم ، الموصل لجنات النعيم.
[٤٨] (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) حسّنها في قلوبهم. (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) ، فإنكم في عدد وعدد ، وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه. (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من أن يأتيكم أحد ، ممن تخشون غائلته ، لأن إبليس قد تبدّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم. فقال لهم الشيطان : أنا جار لكم ، فاطمأنت نفوسهم ، وأتوا على حرد قادرين. فلما (تَراءَتِ الْفِئَتانِ) المسلمون والكافرون ، فرأى الشيطان جبريل عليهالسلام يزع الملائكة خاف خوفا شديدا و (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي : ولى مدبرا ، (وَقالَ) لمن خدعهم وغرهم : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي : أرى الملائكة الّذين لا يدان ، لأحد بقتالهم. (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي : أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ). ومن المحتمل أن يكون الشيطان ، سوّل لهم ، ووسوس في صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، وأنه جار لهم. فلما أوردهم مواردهم ، نكص عنهم ، وتبرأ منهم ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧).
[٤٩] (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك وشبهة ، من ضعفاء الإيمان ، للمؤمنين ، حين أقدموا ـ مع قلتهم ـ على قتال المشركين مع كثرتهم. (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي : أوردهم الدين الذي هم عليه ، هذه الموارد التي لا يدان لهم بها ، ولا استطاعة لهم بها ، يقولونه احتقارا لهم ، واستخفافا بعقولهم ، وهم ـ والله ـ الأخفّاء عقولا ، الضعفاء أحلاما. فإن الإيمان ، يوجب لصاحبه الإقدام على الأمور الهائلة ، التي لا يقدم عليها الجيوش العظام. فإن المؤمن المتوكل على الله ، الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة ولا استطاعة لأحد إلا بالله تعالى ، وأن الخلق لو اجتمعوا كلّهم على نفع شخص بمثقال ذرّة ، لم ينفعوه ، ولو اجتمعوا على أن يضروه ، لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وعلم أنه على الحقّ ، وأن الله تعالى حكيم رحيم ، في كل ما قدره وقضاه فإنه لا يبالي بما أقدم عليه ، من قوة وكثرة ، وكان واثقا بربه ، مطمئن القلب لا فزعا ولا جبانا. ولهذا قال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ)