فله النجاة ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور ، يشمل سائر الأزمنة.
[٧٠] يقول تعالى : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : عهدهم الثقيل بالإيمان بالله ، والقيام بواجباته ، التي تقدم الكلام عليها في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) إلى آخر الآيات. (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) يتوالون عليهم بالدعوة ، ويتعاهدونهم بالإرشاد ولكن ذلك ، لم ينجح فيهم ، ولم يفد. (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) من الحق ، كذبوه ، وعاندوه ، وعاملوه أقبح المعاملة.
[٧١] (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم ، لا يجر عليهم عذابا ، ولا عقوبة ، واستمروا على باطلهم. (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن الحق (ثُمَ) نعشهم و (تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حين تابوا إليه ، وأنابوا. (ثُمَ) لم يستمروا على ذلك ، حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة. حيث (عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بهذا الوصف ، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[٧٢] يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). بشبهة أنه خرج من أم بلا أب ، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية. والحال أنه عليه الصلاة والسّلام قد كذبهم في هذه الدعوى ، وقال لهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فأثبت لنفسه العبودية التامة ، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أحدا من المخلوقين ، لا عيسى ولا غيره. (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) وذلك لأنه سوّى الخلق بالخالق ، وصرّف ما خلقه الله له ـ وهو العبادة الخالصة ـ لغير من هي له ، فاستحق أن يخلد في النار. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ينقذونهم من عذاب الله ، أو يرفعون عنهم بعض ما نزل بهم.
[٧٣] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم. زعموا أن الله ثالث ثلاثة ، الله ، وعيسى ، ومريم ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى. كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء ، والعقيدة القبيحة؟ كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق؟ كيف خفي عليهم رب العالمين؟ قال تعالى ـ ردا عليهم وعلى أشباههم ـ : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) متصف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص ، منفرد بالخلق والتدبير ما بالخلق من نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟ تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم توعدهم بقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
[٧٤] ثم دعاهم إلى التوبة عمّا صدر منهم ، وبيّن أنه يقبل التوبة عن عباده فقال : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) أي : يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد ، وبأن عيسى عبد الله ورسوله ـ عمّا كانوا يقولونه. (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) عن ما صدر منهم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : يغفر ذنوب التائبين ، ولو بلغت عنان السماء ، ويرحمهم ، بقبول توبتهم ، وتبديل سيئاتهم حسنات. وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين