[٢٩] (وَكُلَّ شَيْءٍ) من قليل أو كثير ، وخير وشر (أَحْصَيْناهُ كِتاباً) ، أي : أثبتناه في اللوح المحفوظ ، فلا يحسب المجرمون ،
أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها ، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء ، أو ينسى
منها مثقال ذرة. كما قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا
الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما
عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩).
[٣٠] (فَذُوقُوا) أيها المكذبون هذا العذاب الأليم ، والخزي الدائم (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) ، فكل وقت وحين يزداد عذابهم. وهذه الآية أشد الآيات في
شدة عذاب أهل النار ، أجارنا الله منها.
[٣١] لما ذكر
حال المجرمين ، ذكر مآل المتقين ، فقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً) (٣١) ، أي : الّذين اتقوا سخط ربهم ، بالتمسك بطاعته ، والانكفاف عن معصيته
فلهم مفاز ومنجى ، وبعد عن النار.
[٣٢] وفي ذلك
المفاز لهم (حَدائِقَ) وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية بالثمار. (وَأَعْناباً) تنفجر خلالها الأنهار ، وخص العنب لشرفه وكثرته في تلك
الحدائق.
[٣٣] ولهم فيها
زوجات على مطالب النفوس (كَواعِبَ) ، وهي النواهد ، اللاتي لم ينكسر ثديهن من شبابهن
وقوتهن ونضارتهن. (أَتْراباً) ، أي : على سن واحد متقارب. ومن عادة الأتراب أن يكن
متآلفات ، متعاشرات ، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة ، أعدل ما يكون من
الشباب.
[٣٤] (وَكَأْساً دِهاقاً) (٣٤) ، أي : مملوءة من رحيق ، لذة للشاربين.
[٣٥] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) ، أي : كلاما لا فائدة فيه (وَلا كِذَّاباً) ، أي : إثما. كما قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) ،
[٣٦] وإنّما
أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل من فضله وإحسانه (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً حِساباً) (٣٦) ، أي : بسبب أعمالهم الّتي وفقهم الله لها ، وجعلها سببا للوصول إلى
كرامته.
[٣٧] أي : الذي
أعطاهم هذه العطايا هو ربهم (رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الذي خلقها ودبّرها (الرَّحْمنِ) الذي رحمته وسعت كلّ شيء ، فرباهم ورحمهم ، ولطف بهم ،
حتى أدركوا ما أدركوا. ثمّ ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة ، وأن جميع الخلق
كلهم ساكتون ذلك اليوم لا يتكلمون ، و (لا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطاباً) ، إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فلا يتكلم أحد إلا
بهذين الشرطين : أن يأذن الله له في الكلام ، وأن يكون ما تكلم به صوابا. لأن (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لا يروج فيه الباطل ، ولا ينفع فيه الكذب.
[٣٨] وذلك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) وهو جبريل عليهالسلام ، الذي هو أفضل الملائكة. (وَالْمَلائِكَةُ) أيضا يقوم الجميع (صَفًّا) خاضعين لله (لا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً). فلما رغّب ، ورهّب ، وبشّر ، وأنذر ، قال :
[٣٩] (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ
اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) ، أي : عملا ، وقدم صدق ، يرجع إليه يوم القيامة.
[٤٠] (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) لأنه قد أزف مقبلا ، وكلّ ما هو آت قريب. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ
يَداهُ) ، أي : هذا الذي يهمه ، ويفزع إليه ، فلينظر في هذه
الدار ، ما قدم لدار القرار. (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) الآيات. فإن وجد خيرا فليحمد الله ، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا
نفسه ، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم .. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُراباً) ، نسأل الله أن يعافينا من الكفر والشر كلّه ، إنه جواد
كريم. تم تفسير سورة النبأ ـ ولله الحمد.