كان يدرك من أمامه ، ولم يحجبه كثافة عظم الرأس وعروقه وعظامه وعصبه ومخه ، وذلك خرق عادة لقوة إلهية أعطاه الله إياها ولبعض الأشخاص ، ومن هذا نعلم أن خلق الأجسام الطبيعية أصلها من النور ، ولذلك إذا عرف الإنسان كيف يصفّي جميع الأجسام الكثيفة الظلمانية أبرزها شفافة للنورية التي هي أصل ، مثل الزجاج إذا خلص من كدورة رمله يعود شفافا ، وما ترى جسما قط خلقه الله وبقي على أصل خلقته مستقيما قط ، ما يكون أبدا إلا مائلا للاستدارة ، لا من جماد ولا من حيوان ولا سماء ولا أرض ولا جبل ولا ورق ولا حجر ، وسبب ذلك ميله إلى أصله وهو النور ـ الوجه الثالث ـ لو لا النور ما ظهر للممكنات عين ، ولو لا ما أنت في نفسك ذو نور عقلي ما عرفته وذو نور بصري ما شهدته ، فما شهدته إلا بالنور ، وما ثمّ نور إلا هو ، فما شهدته ولا عرفته إلا به ، فهو نور السموات من حيث العقول ، والأرض من حيث الأبصار ، وما جعل الله عزوجل صفة نوره إلا بالنور الذي هو المصباح ، وهو نور أرضي لا سماوي ، فشبه نوره بالمصباح لأنه لو لا نزوله إلينا ما عرفناه.
فلو لا النور لم تشهده عين |
|
ولو لا العقل لم يعرفه كون |
فبالنور الكوني والإلهي كان ظهور الموجودات التي لم تزل ظاهرة له في حال عدمها ، كما هي لنا في حال وجودها ، فنحن ندركها عقلا في حال عدمها وندركها عينا في حال وجودها ، والحق يدركها عينا في الحالين ، فلو لا أن الممكن في حال عدمه على نور في نفسه ما قبل الوجود ولا تميز عن المحال ، فبنور إمكانه شاهده الحق ، وبنور وجوده شاهده الخلق ، فبين الحق والخلق ما بين الشهودين ، فالحق نور في نور ، والخلق نور في ظلمة في حال عدمه ، وأما في وجوده فهو نور على نور ، لأنه عين الدليل على ربه ، ولما كان الحق لا يتمكن أن يشهد ويعلم إلا بضرب مثل ، لهذا ضرب الله لنا المثل ، وجعل لنا مثل نوره في السموات والأرض (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) والزيت مادة الأنوار ، وهو مثل للإمداد بالنور الإلهي الذي أودع الله في الزيت لبقاء النور ، ثم قال (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) من هذين النورين ، فيعلم المشبه والمشبه به (مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) فجعله ضرب مثل للتوصيل ، ويجوز في ضرب الأمثال المحال الذي لا يمكن وقوعه ، فكما