فلا بدّ هناك من منشأ يمسّ عقيدتهم بالذات عقيدة إسرائيلية عتيدة استدعت هذا الذمّ الشامل.
وأكثر المفسّرين على أنّ هذا القول صدر عنهم على سبيل الإلزام (أي على طريقة الاستلزام) وهي طريقة جدلية يحاول فيها تبكيت الخصم بالأخذ عليه بما يستلزمه مذهبه ، أي لازم رأيه بالذات وإن لم يكن من عقيدة صاحب الحجّة. قالوا : لمّا كثر الحثّ والترغيب على إقراض الله بالإنفاق في سبيله وبذل الصدقات ـ وجاء ذلك في كثير من الآيات ـ فعند ذلك جعلت اليهود تستهزئ بعقيدة المسلمين في ربّهم حيث فرضوه فقيرا محتاجا إلى الاستقراض ، وقالوا تهكّما وسخرا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ). (١) فمن كان فقيرا كان عاجزا مكتوف اليدين. (٢)
ويرى العلّامة الطباطبائي أنّ هذا الوجه أقرب إلى النظر. (٣)
لكن في التفسير الوارد عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام : أنّ قولتهم هذه تعني عقيدتهم بأنّ الله قد فرغ من الأمر فلا يحدث شيئا بعد الّذي قدّره الله في الأزل. «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (٤) فلا تغيير بعد ذلك التقدير. تلك كانت عقيدة اليهود السائدة ، وتسرّبت ضمن الإسرائيليات إلى أحاديث العامّة. فردّ الله عليهم بأنّ يديه مبسوطتان يتصرّف حيث يريد. (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (٥) (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). (٦) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ). (٧) (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٨)
روى الشيخ بإسناده إلى هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)(٩) قال : كانوا يقولون : قد فرغ من الأمر. (١٠)
وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام لسليمان بن حفص المروزي ، متكلّم خراسان ـ وقد استعظم مسألة البداء في التكوين ـ : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا
__________________
(١) آل عمران ٣ : ١٨١.
(٢) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥٤٧.
(٣) تفسير الميزان ، ج ٦ ، ص ٣٢.
(٤) راجع : صحيح البخاري ، باب القدر ، ج ٨ ، ص ١٥٢.
(٥) الرعد ١٣ : ٣٩.
(٦) الرحمن ٥٥ : ٢٩.
(٧) هود ١١ : ١٠٧ ، البروج ٨٥ : ١٦.
(٨) فاطر ٣٥ : ١.
(٩) المائدة ٥ : ٦٤.
(١٠) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ١١٣ ، رقم ٣٥.