١ ـ مجاراة في الاستعمال
هل كان التكلّم بلسان قوم يستدعي الاعتراف بما تحمله لغتهم من ثقافات؟ أم كان لا يعدو سوى المجاراة معهم في الاستعمال؟
الثاني هو الصحيح الواقع. ذلك أنّ المحاورة لأجل التفاهم في أيّ لغة لا يستدعي سوى العلم بمعاني الكلم الإفرادية والجملية في الاستعمال الدارج فعليّا لدى القوم ، فكان ينبغي المماشاة معهم ومجاراتهم في تبادل المفاهيم حسبما يتعاهدونه الآن ، من غير نظر إلى أصل الوضع والدواعي التي دعت إلى وضع كلّ لفظة لمعنى خاصّ. فإنّ هذه الدواعي كانت ملحوظة لدى الوضع ولا تلحظ حين الاستعمال ، وربّما كان مستعملو اللفظة في ذهول عن الأسباب الداعية للأوضاع الخاصّة الأوّلية.
خذ مثلا لفظة «المجنون» وضعت للمصاب بداء توتّر الأعصاب ، وكان السبب الداعي لهذا الوضع في حينه اعتقاد أنّه اصيب بمساس الجنّ ، ومن ثمّ كانوا في العهد القديم يعالجون المصابين بهذا الداء بالرقى والتعاويذ لغرض إبعاد الجنّ عنهم فيما زعموا. واليوم أصبحت هذه العقيدة خرافة ، غير أنّ أبناء اللغة لا يزالون يتداولون اللفظة لغرض التفاهم مع بعضهم ، حيث اللفظة أصبحت مجرّد علامة للدلالة على هذا المعنى بمفهومه الجديد لا الخرافة البائدة ، وإن كانت هي السبب للوضع في وقته ، غير أنّه غير ملحوظ بل مرفوض في الاستعمال حاليّا.
والصحراء القاحلة سمّيت «مفازة» تفاؤلا ، وتتداول التسمية من غير أن تلحظ فيها ذاك التفاؤل الملحوظ عند الوضع. أو من سمّى ابنه جميلا لما يرى عليه مسحة جمال ، وغيره ممّن يستعمل اللفظة إنّما يستعملها لأنّها علم عليه ، رغم عدم لحاظ جمال فيه أو كان يرى العكس. ذلك لأنّ التسمية تحقّقت وأصبح الاسم علما له من غير أن يحمل مفهومه الملحوظ عند التسمية.
وعليه ، فالاستعمالات الدارجة تابعة لمداليل الألفاظ كعلائم على المعاني محضا ، ولا تلحظ الدواعي والمناسبة الأوّلية التي لاحظها الواضع حين الوضع.