لكونه أقدم ، ثم قال : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] ، فقدّم البشارة لشرفها لوجود الإيمان بالفعل ، والتنزيل أيضا ، فمنكم كافر ، ومنكم مؤمن ، فقدّم الكافر ؛ لكثرة أهل الطاغوت ، فهذه الآيات متقاربة في المعنى.
وهذا المعنى الذي ذكرناه ، عناه من قال : وجنة الفردوس للكافر ، فخصّ بالذكر جنة الفردوس التي هي أعلى الجنّات ، ومقام المقرّبين ؛ لأنه لا ينالها إلا أهل الكفر بالطاغوت ؛ وهم أقل القليل ؛ لأنهم الذين أشير إليهم بقوله : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١].
وبقوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] ، وبقول من قال : خطوتان ، وقد وصلت ؛ حيث أراد بالخطوة الأولى : الإعراض الكلي عمّا سوى الله تعالى الذي هو من باب الترك ، بالثانية : الإقبال على الله تعالى الذي هو من باب الفعل.
فهاتان الخطوتان نوران بينهما نار هي نار العشق ، فإنه لا يتم الإعراض والإقبال إلا بهذه النار ، فمن لم يذق من العشق والمحبة شيئا ؛ فهو لم يذق شيئا من الحلوى ، ولم يدر ما هي ، فإن من لم يذق ؛ لم يعرف ، فبعض أهل الرسوم تتبّعوا كتب أهل الأذواق (١) ، وضبطوا المقامات بقدر وسعة عقلوهم ، كما رأينا بعضهم في الشام وفي غيرها ، فشرعوا في التكلّم من اصطلاحاتهم ، ووقعوا في الدعوى العريضة ، وهم كما هم على حالهم الأولى لم يذوقوا شيئا من الحالات أصلا.
__________________
(١) قال سيدي محمد وفا رضي الله عنه وعنّا به : الذوق هو إدراك في القلب ، يميز به بين أشخاص أصناف المعاني ، هذا إذا صح من علة داء الشرك الخفي ، وحقيقته : وجدان حلاوة من التمنّى في رياض تروض الرضا ، وغايته : الاستغناء في تصور معاني الحقائق عن نصب الأدلة والبراهين السمعية والعقلية اه.
وقال البغدادي في شرح الصلاة : هو نور عرفاني يقذفه الحق بتجلّيه في قلوب أوليائه يفرّقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب وغيره.
وقد عرّفه الشيخ الأكبر بأنه : أول مبادئ التجلّي المؤدي إلى الشرب ؛ لأنه إذا كان نفسين فهو الشرب ، والوجدان ما يحس به بالباطن كالجوع مثلا.
واصطلاحا : ما يجده العارف في قلبه من التجليّات الإلهية ، فكما أنّ من أحسّ بالجوع باطنا لا يتردد فيه ، ولا يكون لأحد معه ، دخل في هذا الإحساس الباطني الخاص ، كذلك من وجد الحق تعالى يكون بهذه الكيفية.