وعلم من هذا أن الأخذ من الله أصعب من الأخذ الملكي ؛ لأنه نور الأنوار ، والنور الشعشاني الخاطف للأبصار ، فلا يتيسر للعبد الضعيف المرائي الظلماني المناسبة به إلا بهيئة المحلّ ، وهو السرّ وذلك بتفريقه عمّا سوى الله تعالى بالكلية ، فإنه لن تنكشف الحقائق ، والمحل مشغول بشيء من ذلك ، ولم يحصل إلا الواحد بعد واحد ، فإن أكثر المعارف الدائرة بين السالكين من قبيل لوازم الحقائق نفسها ، وإن كان يظن بعض الظّن : إنها من المعارف العالية ، وإن أهلها من أكامل الأرواح الطيبة ، وأخصّ خواص الإنسان.
قال الله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [غافر : ٥٨].
إنما لم يستويا ؛ لأن البصير على نور ظاهر من ربه بخلاف الأعمى ، وكذا المؤمن والكافر ، فإن المؤمن على نور باطن من ربه بخلاف الكافر ، وكذا حال المحسن والمسيء والمطيع والعاصي.
والفرق بين المحسن والمطيع أن المحسن أخصّ لأن باطنه منوّر بنور الإحسان والشاهدة ، فكل محسن مطيع دون العكس ، فظهر أن الآية بعبارتها تدلّ على عدم المساواة بين الأعمى والبصير الحسّيين ، وإشارتها تدلّ على عدمها بين الأعمى والبصير المعنويين.
وقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ، يدلّ على أن أعمى الباطن أشدّ من أعمى الظاهر ؛ بل العمى الباطن لا نسبة بينه ، وبين العمى الظاهر إلا من حيث الاشتراك في الاسم ، وقد كان بعض الأنبياء عليهمالسلام أعمى ؛ كشعيب فلم يضرّه ذلك في كماله ؛ لكونه في حكم البصير.
لطيفة :
قد كان لي أخ صغير ؛ هو من أخس الناس ، وأبخلهم في زمانه مع سعته وثروته ، فتوفى فرأيته في المنام ؛ كأنه متهيئ للوعظ ، فلمّا رأني عند الكرسي أدبر وقال : إني لا أقدر على الوعظ ، وهو حاضر ، فقيل لي : إن اسمه يوجد في دفتر العمي عند السلطان فليتتبع هناك ، فلمّا اطّلعت على ذلك الدفتر ؛ وجدت أكثر أسمائه