ثم هذا البعد اعتباري ؛ لعدم ظهور آثار القرب ، وإلا فالله قريب من عباده أينما كانوا ، وأمّا هم فمنهم قرباء ، ومنهم أقارب ، ومنهم أباعد على طبقات مختلفة بحسب كشفهم ، واحتجابهم ، ودخل تحت التبليغ ، والإنذار دعوة الجن ، وإنذارهم أيضا.
والفرق بينهم ، وبين الإنس : ان الإنس مبشّرون ، كما أنهم منذرون.
وأمّا الجن : فمنذرون فقط ، دلّ عليه قوله تعالى حكاية : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف : ٣١] حيث خصّ الإجارة بالذكر ، وطوى ذكر الإدخال في الجنات.
فإن قلت : إذا كانوا من أهل التبليغ ؛ فللمؤمن منهم ثواب وأجر ، كما للمؤمن الإنس ، فأين يستوي أجره ، ولا دار للثواب إلا الجنة؟.
قلت : هذا أمر سكت عنه بعض أهل الله ؛ لعدم الكشف له فيه ، وستره بعضهم ، وإن وقع له الكشف فيه متابعة لمن سلف من أهل الستر ، وقد حققناه في محلّ أخر حسبما ساعدنا الإلهام في ذلك ، وعيّ نا أجورهم ومحالها ، وسترنا في هذه المحلّ متابعة للسلف في الجملة ، والله العليم الخبير المحيط ، ليعلموا إنما هو إله واحد خصّ التوحيد بالذكر ؛ لعلو شأنه بالنسبة إلى سائر الأحكام ؛ لأنه الأصل الأصيل ، والأس المتين ، وما عداه فمتفرّع عليه ومبني.
ولم يقل : إن الله إله واحد ؛ بل أتى بضمير الهويّة ؛ إشارة إلى مقام التنزيه ، والتقديس الذي يقتضيه غيب الهويّة ، ولأمر ما ورد : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر» (١) ؛ حيث بدأ بالتسبيح الذي يلي علم الغيب ، وعاد إليه أيضا ببيان الكبرياء الذي هو عين التسبيح.
ولا شك أنه أول الأمر كالإنذار ؛ ولذا كان أكثر الأنبياء ، وأعين قومهم إلى الله تعالى من هذا المقام إلى أن جاء إبراهيم عليهالسلام.
فكسا الذات الإلهية كسوة الصفات الثبوتية ؛ ولذا كان أول من يكسى يوم القيامة ، وإلى أن جاء نبينا صلىاللهعليهوسلم إنه جاء بشريعة جامعة للتنزيه والتشبيه جميعا كما
__________________
(١) رواه البخاري (٦ / ٢٤٥٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠٧٢).