العرب إذا اعتقدوا في فعل أنّه يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر سمّوه كسبا ، ولهذا سمّوا هذه الحرف مكاسب ، والمتحرّف بها كاسبا ، والجوارح من الطير كواسب. ومتى قيل إنّ هذه حقيقة الكسب من طريق العربية ، وليس الكلام إلّا في الكسب الاصطلاحي ، قلنا : الاصطلاح على ما لا يعقل غير ممكن ، لأنّ الشيء يعقل معناه أولا ، ثم إن لم يوجد له اسم في اللغة يصطلح عليه ؛ فأمّا والمعنى لم يثبت بعد ولم يعقل فلا وجه للاصطلاح عليه. وأيضا فلا بدّ من أن يكون للاصطلاح شبه بأصل الوضع ، وما يقوله مخالفونا لا شبه له بأصل الوضع (ق ، ش ، ٣٦٤ ، ٢)
ـ إنّا نقول لهم (القائلون بالكسب) : عقّلونا معنى الكسب وخبّرونا عنه ، فإن اشتغلوا بالتحديد ، قلنا : الشيء يعقل أولا ثم يحدّ ، لأنّ التحديد ليس إلّا تفصيل لفظ مشكل بلفظ واضح ، فكيف توصّلتم إلى معناه بطريق التحديد. ثم يقال لهم : وما هو الذي حدّدتم به الكسب؟ فإن قالوا : ما وقع بقدرة محدثة ، قلنا : ما تعنون بقولكم ما وقع بقدرة محدثة؟ فإن أردتم به ما حدث فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به ما وقع كسبا فعن الكسب سألناكم فكيف تفسّرونه بنفسه ، وهل هذا إلّا إحالة بالمجهول على المجهول؟ وأيضا ، فإنّ قولكم ما وقع بقدرة محدثة ، ينبني على إثبات القدرة ، وإثبات القدرة يترتّب على كون الواحد منّا قادرا ، وذلك ينبني على كونه فاعلا ، ومن مذهبكم أنّه لا فاعل في الشاهد. وأيضا ، فإنّ هذا يقتضي أن يكون للفاعل وقدرته فيه تأثير ، وذلك خلاف ما ذهبتم إليه ؛ لأنّ عندكم أنّ هذا الفعل يتعلّق بالله تعالى ، إن شاء أبصره مع القدرة ، وإن شاء أبصره ولا قدرة. وأيضا ؛ فلو جاز أن يقال : هذه الأفعال كسب لنا مع أنّها متعلّقة بالله تعالى على سائر وجوهها ، لجاز في القدرة مثله. فيقال : إنّها كسب لنا وإن لم تتعلّق بنا البتّة. فإن قالوا : إنّ الكسب ما وقع وكانت القدرة قدرة عليه على ما يقوله بعضهم ، فإنّ ما ذكرناه في الحدّ الأوّل يعود هاهنا فلا معنى لإعادته (ق ، ش ، ٣٦٦ ، ١٦)
ـ إنّ الكسب عبارة عن فعل واقع على وجه ، وهو أن يستجلب به نفعا أو يستدفع به ضررا (ق ، ش ، ٣٧١ ، ١٣)
ـ قالوا (أصحاب الكسب) : لا يجب أن يسمّى القديم تعالى مكتسبا ، لأنّ الكسب اسم لمن يفعل الكسب بآلة ، والقديم تعالى لم يفعله بآلة (ق ، ش ، ٣٧٦ ، ٧)
ـ قلنا (القاضي) : قد ذكرنا أنّ الذي يستحقّه الفاعل من الاسم يجب أن يجري عليه ، سواء فعله بآلة أو لم يفعله بآلة ، فلا يصحّ ما ذكرتموه. وبعد ، فإنّ مجرّد الكسب مما لا يحتاج إلى آلة ، وأكثر ما فيه أنّه لا يوجد إلّا في محل القدرة ، وليس إذا لم يوجد إلّا في محل القدرة مما يجب أن يكون واقعا بآلة ، لو لا ذلك وإلّا كان يجب أن تكون الحياة بآلة في العلم ، فإنّه لا يصحّ وجود العلم إلّا في محل فيه حياة ، ولكان يجب في الجسم أن يكون آلة للأكوان ، فإنّها لا يصحّ وجودها إلّا في محل ، وهذا يوجب على مرتكبه القول بأنّه تعالى فاعل بآلة ، وقد عرف فساده (ق ، ش ، ٣٧٦ ، ١١)
ـ إنّهم أرادوا (مشايخنا) أن يفصلوا بين الفعل الذي يقع على ضرب من التقدير مطابق للحاجة وبين الفعل الذي ليس هذا سبيله بأن يقع مسهوا عنه أو زائدا على ما يحتاج إليه أو ناقصا عنه.