أنشأ
ـ قال الله عزوجل : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (الكهف : ١٧) وقال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (البقرة : ٢٦) فأخبر أنه يضل ويهدي ، وقال : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (إبراهيم : ٢٧) فأخبرنا أنّه فعّال لما يريد ، وإذا كان الكفر مما أراده فقد فعله وقدّره وأحدثه وأنشأه واخترعه ، وقد بيّن ذلك بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (الصافات : ٩٥ ـ ٩٦) فلو كانت عبادتهم للأصنام من أعمالهم كان ذلك مخلوقا لله ، وقد قال الله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف : ١٤) يريد أنّه يجازيهم على أعمالهم ، فكذلك إذا ذكر عبادتهم للأصنام وكفرهم بالرحمن ، ولو كان مما قدّروه وفعلوه لأنفسهم لكانوا قد فعلوا وقدّروا ما خرج عن تقدير ربهم وفعله ، وكيف يجوز أن يكون لهم من التقدير والفعل والقدرة ما ليس لربهم؟ من زعم ذلك فقد عجّز الله عزوجل ، تعالى عن قول المعجّزين له علوا كبيرا (ش ، ب ، ١٧٥ ، ٥)
ـ قال (علي) إنّه أنشأ الأشياء بغير رويّة ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها ، خلق ما خلق عليها ولا تجربة أفادها أي استفادها من حوادث مرّت عليه من قبل ، كما تكسب التجارب علوما لم تكن ، ولا بمساعدة شريك أعانه عليها ، فتمّ خلقه بأمره إشارة إلى قوله ، ولم تستصعب إذ أمر بالمضي ، فلمّا أثبت هناك كونها أمرت أعاد لفظ الأمر هاهنا ، والكل مجاز ومعناه نفوذ إرادته ، وأنّه إذا شاء أمرا استحال أن لا يقع ، وهذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل : ٤٠) ، تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأمور له وانقيادها تحت قدرته (أ ، ش ٢ ، ١٤٦ ، ١٧)
إنشاء
ـ جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع. فإن قلت : فإذا لا حياة إلّا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت : ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلا على أنّ الثلث ليس عندك ، وأيضا فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة : الإنشاء والإماتة والإعادة ، والمطويّ ذكرها من جنس الإعادة (ز ، ك ٣ ، ٢٨ ، ١٦)
ـ دلّ بقوله (النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (العنكبوت : ٢٠) على أنّهما نشأتان ، وأنّ كل واحدة منهما إنشاء : أي ابتداء واختراع وإخراج من العدم إلى الوجود لا تفاوت بينهما ، إلّا أنّ الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله ، والأولى ليست كذلك. وقرئ النشأة والنشاءة كالرأفة والرأفة. فإن قلت : ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (العنكبوت : ٢٠) بعد إضماره في قوله (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت : ٢٠) وكان القياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت : الكلام معهم كان واقعا في الإعادة وفيها كانت تصطك الركب ، فلما قرّرهم في الإبداء بأنّه من الله احتجّ عليهم بأنّ الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة ، فكأنّه قال :