عاكس لضوء غيره. لذلك وصف القمر فى القرآن بأنه نور ، ومنير ، لأنه يعكس ضوء الشمس ، وليس له إشعاع ذاتى.
إذن ، لما ذا وصف القرآن محمدا صلىاللهعليهوسلم بعد تشبيهه بالسراج بأنه (مُنِيراً) والسراج له ضوء لا نور؟
إن إيثار (مُنِيراً) على «مضيئا» قبس من ضوء الإعجاز البلاغى فى القرآن الكريم ؛ لأن محمدا صلىاللهعليهوسلم لم يخترع الهدى الذى جاء به من عند نفسه وإنما تلقاه عن الله عزوجل ، فهو عاكس لهذا الضوء الإلهى ولو قيل «مضيئا» لوقع فى بعض الأفهام أنه مجرد عبقرى من عباقرة البشر ، وليس له صلة بالله. وهذا ما يردده بعض المستشرقين الآن ، لكن لما قال (مُنِيراً) أحكم غلق كل النوافذ أمام الأوهام المريضة ، عن طريق استخدام مفردات اللغة فى أعلى وأدق وأحكم مستويات استعمالها.
كما كان فى إيثار (مُنِيراً) علي «مضيئا» إثبات لرسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه منير عاكس لضوء مصدره الله عزوجل ، وليس هو مصدره.
ولقائل أن يقول :
ولما ذا لم يقل القرآن : وقمرا منيرا؟
فيريحنا من تلك التأويلات؟
والجواب : أن البلاغة والإعجاز فى (وَسِراجاً مُنِيراً) وليس كذلك : وقمرا منيرا.
وذلك لأن من منهج القرآن البلاغى ألا يشبه أحدا من الخلق بالقمر «فهذا أمر هجره البيان القرآنى تماما. هذه واحدة.
والثانية أن التشبيه بالقمر لا يرقى إلى مستوى التشبيه بالسراج. ولا يؤدى عشر معشار المعانى التى تشع منه ، بيان ذلك : أن القمر متقلب لا يدوم على حال. ففي كل يوم له وضع يختلف عما قبله وما بعده :
يبدو ضعيفا هزيلا نحيفا فى أولى مراحله ، قصير المكث فى الأفق ولا يبلغ تمامه إلا ليلة واحدة فى دورته الشهرية ، ثم يعود عكس ما بدأ ، يصغر حجمه ليلة قليلة ، ثم يختفى تماما فى آخر لياليه.
وليس الهدى الذى جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم كذلك فهو مستقر لا متقلب كالقمر ، دائم لا تعتريه آفات ولا علل.
إن السراج الذى شبه الله به محمدا صلىاللهعليهوسلم لم ينطفئ منذ أشعله الله ، ولم يضعف ، ولن ينطفئ ولن يضعف. لذلك كان التشبيه به بلاغة وإعجازا. أما التشبيه بالقمر ـ فى هذا المقام ـ فعىّ وفهاهة ، لذلك لم يشبه الله رسوله به ؛ لأن حديث الله أحسن الحديث ، وقوله أصدق الأقوال.