الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ.)
[١٢ / يوسف : ٣٤ ـ ٤١]
يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم ، أي ظهر لهم من الرأي (١) بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ؛ ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية ، وأحمد لأمرها ، وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها ، فسجنوه ظلما وعدوانا.
وكان هذا مما قدر الله له ، ومن جملة ما عصمه به ؛ فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم.
ومن هنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي : أن من العصمة أن لا تجد!.
قال الله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ). قيل : كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل «نبوا» والآخر ـ خبازه ، يعني الذي يلي طعامه ، وهو الذي يقول له الترك : «الجاشنكير» واسمه فيما قيل : «مجلث» وكان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما. فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته (٢) وهديه ، ودله وطريقته ، وقوله وفعله ، وكثرة عبادته ربه ، وإحسانه إلى خلقه ، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه.
قال أهل التفسير : رأيا في ليلة واحدة. أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب ، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه. ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز ، وضواري الطيور تأكل (٣) من السل الأعلى.
فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما وقالا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها ، (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما). قيل :
معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكما قبل وقوعه فيكون كما أقول. وقيل : معناه أني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا وحامضا ، كما قال عيسى : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ).
وقال لهما : إن هذا من تعليم الله إياي ، لأني مؤمن به موحد له ، متبع ملة آبائي الكرام :
إبراهيم الخليل ، وإسحاق ويعقوب. (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) أي بأن هدانا لهذا ، (وَعَلَى النَّاسِ) أي بأن أمرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز ، وفي جبلتهم مغروز (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).
ثم دعاهم الى التوحيد وذم عبادة ما سوى الله عزوجل ، وصغر أمر الأوثان وحقرها ، وضعف أمرها فقال :
__________________
(١) و : المرائي.
(٢) و : سميته.
(٣) و : تأخذ.