وإليك الملاحظة الثّالثة ، والأخيرة ، الّتي تمس أساس المشكلة ذاته ، فنحن إذا أكدنا أنّ التّشريع الإسلامي لا يسعى إلى كشف الجرائم الخاصة ، وأنّه لا يلزم أحدا ، ولا يدعوه أن يعترف بها ـ لم يكن هذا القول كافيا ، فالحقيقة هي أنّ المصدرين الرّئيسين للتشريع الإسلامي لا يكتفيان هنا بمجرد الإمتناع ، وإنّما يتخذان موقفا واضحا وصريحا. فالقرآن يحرم علينا صراحة أن نستطلع أسرار إخواننا ، فقال سبحانه وتعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) (١) ، وهكذا يقطع نصف الطّريق على الواشين. وليس يخضع للقضاء سوى الرّذيلة الّتي تتفشى ، وتعرض نفسها ، وتتحدى ، أمّا حالة الإنسان الّذي يستتر ، وترتعد فرائصه حين يخضع لأهوائه ،
__________________
ـ (المحلى) : ١١ / ٢٤٣ ـ على أنّه يفرض إدانة. أو يؤسس براءة ، وإذن فمن الواجب ألّا نحمل القولة القانونية المشهورة ، «إدرءوا الحدود بالشبهات» ـ على معنى شامل غير مسلم به ، وهى قولة معدودة غالبا على أنّها حديث ، مع أنّ أصلها في الواقع لا يرقى إلى أكثر من الجيل الثّاني من المسلمين ، ولكن حين قيدت القولة على هذا النّحو ، وفسرت كما هو مطلوب ، أصبح ممكنا قبولها ، بل قبلت فعلا من الجميع.
انظر ، المقنع للشيخ الصّدوق : ٤٣٧ ، الخلاف : ٣ / ٣٤٦ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٥٣ ح ١٩٠ ، الجامع الصّغير : ١ / ٥٢ ح ٣١٤ ، فيض القدير : ١ / ٢٢٧ و : ٦ / ٤٥٣ ، نصب الرّاية : ٣ / ٣٣٣ ، تلخيص الحبير : ٤ / ٥٦ ح ١٧٥٥ ، كنز العمال : ٥ / ٣٠٥ ح ١٢٩٥٧ و ١٢٩٧٢ ، السّرائر لابن إدريس : ٣ / ٤٤٥ ، تفسير القرطبي : ٣ / ٢٩٨ ، مصباح الزّجاجة : ٣ / ١٠٣ ، حلية الأولياء : ٩ / ١٠ ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ٢ / ٢٩٧ ، الإحكام : ٢ / ١٣٠ ، المدونة : ٦ / ٢٣٦.
ومع ذلك يروي التّرمذي في سننه : ٤ / ٣٣ ح ١٤٢٤ قولة أخرى شبيهة بهذه ، ويرفعها إلى النّبي صلىاللهعليهوسلم : «إدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم». انظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٢٦ ح ٨١٦٣ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢٣٨ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٥ / ٥١٢ ح ٢٨٥٠٢ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ١٠ / ١٦٦ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٨٢ ح ٢٥٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ١٨٣ ح ٢٥٥١.
(١) الحجرات : ١٢.