وأما قولهم: «خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها» قلنا: ذاته المقدسة لا تقبل أن يخلق فيها شيء ولا أن يحل فيها شيء، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا.
واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: ١٠] وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ) [الأنعام: ١٨] وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إما أن تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان(١). ثم إنه كما قال تعالى: (فَوْقَ عِبٰادِهِ) [الأنعام: ١٨] قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ) [الحديد: ٤] فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر(٢).
وذهبت طائفة إلى أن اللّه تعالى على عرشه قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش، والكرسي موضع قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية.
* * *
فصل: فإن قيل فقد أخرج في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه أنه ذكر المعراج فقال فيه: فعلا به إلى الجبار تعالى فقال وهو في مكانه: «يا رب خفّف عنا».
الجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة انفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى اللّه تعالى إنما هو مكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه وفي هذا الحديث «فاستأذنت على ربي وهو في
__________________
(١) في التفسير الكبير للفخر الرازي: العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق، إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والآخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة لأحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون في حيز معين (ز).
(٢) يقول الفخر الرازي في أساس التقديس: إن ظاهر قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: ١٦] وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ) [الحديد: ٤] وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلٰهٌ) [الزّخرف: ٨٤] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآيات لتبقى الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس اه (ز).