والجواب الثاني : أن الله تعالى علّق جواز الرؤية على أمر جائز ، ولو كانت مستحيلة لما علقها على أمر يجوز أن يوجد ، وهو استقرار الجبل ، فلما كان استقرار الجبل من الجائز دلّ على أن الرؤية جائزة.
فإن قيل : أليس قد قال موسى عليهالسلام : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] قالوا : والتوبة إنما تكون من الخطأ ، فلما علم عليهالسلام أنه أخطأ تاب ، فالجواب من أوجه :
أحدها : أن موسى عليهالسلام لما رأى الآية من جعل الجبل دكا ، وصعوقه ، قال على جاري العادة من القول عند الفزع (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] وإن لم يكن سؤاله مستحيلا ، وهذا كما أن الواحد منا إذا سمع صوت الرعد العظيم ، أو رأى الظلمة العظيمة ، أو أمرا هائلا فزع عند ذلك إلى التوبة والاستغفار ، وإن لم يكن منه قبل ذلك معصية. أو سؤال مستحيل.
وجواب آخر : وهو أنه يحتمل أن موسى عليهالسلام ذكر عند هول ما رأى فيه النفس ، فجدّد التوبة منها وأكدها ، وإن لم يكن منه في هذه الحالة ذنب يتاب منه.
جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : تبت إليك للشدة التي أصابته عند سؤال الرؤية ، وإن كانت الرؤية جائزة. كما أن الواحد منا إذا ركب البحر وناله شدة وخوف من هوله وأمواجه ، أو سافر فلقي في سفره ما أتعبه وشقّ عليه يقول : أنا تائب من ركوب البحر ومن السفر ، وإن كان ركوب البحر والسفر جائزا غير محرم. ولا مستحيل ، وكذلك مسألتنا مثله.
جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] من أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الجليل قبل الاستئذان فيه ، حتى يؤذن لي في السؤال ، ولهذا قيل عن موسى عليهالسلام : إنه تأدب بعد ذلك ، فقال : يا رب أسألك في جميع أموري؟ قال : نعم يا موسى اسألني في جميع أمورك حتى ملح عجين أهلك.
جواب آخر : وهو أن موسى عليهالسلام كانت إرادته وهمته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الآخرة ، وكان مراد الله تعالى تأخير الرؤية له إلى الآخرة ، وأن لا يتقدم على نبينا صلىاللهعليهوسلم في الرؤية ، فكأنه قال : تبت عن مرادي وهمتي إلى مرادك. وهذا صحيح ، لأن التوبة هي الرجوع ، فكأنه رجع عن مراده إلى مراد ربه. فاعلم ذلك.
ويدل على صحة ما قدّمناه من قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقوله :