ورأسه مرفوع ، والمعنى أنه مهما جد الفكر واجتهد ، ووصل إلى حلول القضايا ومشاكل اجتماعية ونفسية فإن هذه الحلول تتأرجح بين الصواب والغلط. فبعض الفلاسفة مصيب وبعضهم غلطان ، وقد يخطىء خطأ لا سبيل إلى إصلاحه. والمشكلة أن لا سلاح في يد الفلاسفة سوى الفكر وآلاته وأساليبه ، وإلى هذا الفكر المسمى العقل في الفلسفة الحديثة وجه الفيلسوف كانط قذائف نقده ، إذ بيّن تهافت العقل كما فعل الإمام الغزالي من قبل ، كما بيّن أن أساليب المنطق العقلي تثبت الشيء ونقيضه مثل إمكان إثبات أن الإنسان حر ومسيّر. فحسب قانون السببية الطبيعي فالإنسان مسيّر لأنه مخلوق من مخلوقات الطبيعة يخضع لقوانينها وعند القيام بعملية استبطان ذاتية يتبيّن للإنسان أنه مخيّر قادر على أن يفعل ما يشاء أو أن لا يفعل. ولم يجد كانط حلا لهذا التناقض فلسفيا ، وقال إن هذه المسألة تبقى لغزا من الألغاز. في حين شنّت الصوفية هجومهم الكبير على هذا السور فدكوه عند ما أعلنوا أن الإنسان مجبور في اختياره ، أي أنه إن اختار فاختياره من اختيار الله ، وأنه متحرك داخل الإرادة الإلهية ، وتعد الأحاديث النبوية نبراسا اهتدى بهديه أعلام الصوفية وفلاسفة المسلمين الموحدين أمثال الفارابي وابن سينا الجامعين بين علوم الفلسفة والدين ، وهذا ما أشارت إليه الآية الواحدة والثمانون قائلة : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ).
٨٣ ، ٨٦ ـ (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))
[يونس : ٨٣ ، ٨٦]
علو فرعون علو النفس الأمارة في أرض البدن والحواس ، ولهذا وصف سبحانه علو النفس الترابية هذه بأنه أسفل سافلين ، وقد وصف أتباع النفس الدنية هذه في كتاب الله بأنهم كثير لما قال سبحانه : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النّحل : ٧٥] ، (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠] ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) [يونس : ٦٠] ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت : ٦٣].
فعلو فرعون كون أتباعه أكثر أهل الأرض ، ولهذه الكثرة غاية ومن وراء وجودها حكمة .. ذلك أن المعادن كلما كثرت رخصت ، وكلما ندرت غلت وعظمت في عيون الناس قيمتها. فلو أن الصادقين كثروا ، وكذلك المؤمنين المحسنين ، وكذلك الحلماء العافين عن الناس إلى آخر من يمثلون المعادن النفيسة النادرة لما احتلوا المكانة التي يحتلونها في أعين الناس ، ثم إن