موضع الفجر يحسن فى كل كلام ، إلا أن يكون شعرا أو سجعا ، وليس كذلك ، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر فى موضع ، وتزل عن مكان لا تزل فيه اللفظة الأخرى ، بل تتمكن فيه ، وتضرب بجرانها ، وتراها فى مظانها ، وتجدها فى غير منازعة فى أوطانها ، وتجد الأخرى لو وضعت فى موضعها لكانت فى محل نفار ، ومرمى شرار ، ونابية عن استقرار» (١).
هذا ما ذكره الباقلانى فى كتابه ، وإذا طرحنا ما فيه من سجع لم يجئ على رسله واتجهنا إلى ما يرمى إليه وجدناه سليما دقيقا ، وإنه لا ينطبق على كلام كما ينطبق على القرآن ، ومقام القرآن فيه مقام الذروة والسنام.
وإن التأليف ليس فقط فى نسق الألفاظ ونغمها ، بل إنه يشمل التآخى فى المعانى كالتآخى فى المبانى ، فلا يكون معنى لفظ نافرا من المعنى الذى يجاوره ، ويتألف من الألفاظ والمعانى وما توعزه من أخيلة ، وما تثيره من معان متداعية يدعو بعضها بعضا ، ويتألف منها علم زاخر ، كثير خصب ، وقد عبر عن هذا المعنى الوليد ابن المغيرة بقوله : «إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق».
ولنذكر لك شاهدا على ما نقول هو قصة الأعرابى الذى سمع قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣٨) [المائدة : ٣٨] ، فأخطأ القارئ وقال : غفور رحيم ، فقال الأعرابى ، إنه يقطع الأيدى نكالا فلا يتفق القول ، فراجع القارئ نفسه وأدراك المعنى.
٥٧ ـ وإن التآخى فى المعانى والألفاظ ونسقها ونغمها ومعانيها واضح فى كل آيات القرآن ، لا فى آية دون أخرى ولا فى سورة دون سورة ، فلا تجد فى لفظ معنى يوجه الخاطر إلى ناحية ، ويليه آخر يوجهه إلى ناحية أخرى ، بل تجد النواحى متحدة إما بالتقابل وإما بالتلاصق والمجاورة ، وفى كلتا الحالين ، تجد معنى كل لفظ يمهد لمعنى اللفظ الآخر فلا تنافر فى المعانى ، كما أنه لا تنافر فى الألفاظ ، وهما فى مجموعهما ينسابان فى النفس غذاء رطيبا مريئا ، ونميرا عذبا سلسبيلا.
وقد ساق الباقلانى آيات ليست مختارة اختيارا ، لأن آيات القرآن كلها لا نظير لها ، فليس اختيار من ينتقى لأن كله خير ، وسنذكر آيات مما ذكر وأخرى لم يذكر ، كأن نفتح الكتاب ، فيبدو نوره فنقبس منه قبسة.
وقرأ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)
__________________
(١) إعجاز القرآن ص ٢٨٠ طبع المعارف.