فطرني ، وجاز ذلك لكونهم عابدين آلهتهم مع الله ، ويجوز أن يكون (إِلَّا) صفة بمعنى غير ويكون «ما» في «ما تعبدون» موصوفة ، أي بري من آلهة (١) غير الذي فطرني ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي لكن الذي فطرني ، أي (٢) لا أبرأ منه ، قوله (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [٢٧] لا ينافي قوله (فَهُوَ يَهْدِينِ)(٣) لكون المراد بالجمع بينهما في القول استمرار الهداية في الحال والاستقبال ، لأن المعنى أن الله تعالى يثبتني على الهداية حالا ومئالا وهي كلمة الإخلاص ، أعني «لا إله إلا الله».
(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨))
(وَجَعَلَها) أي وجعل إبراهيم أو الله كلمة التوحيد التي تكلم بها بالوصية (كَلِمَةً باقِيَةً) تقال (٤)(فِي عَقِبِهِ) أي في ذريته ونسله من بعده (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٢٨] إلى الإيمان والطاعة إذا علموا أن إبراهيم كان أوصى بذلك ، قيل : «لا يزال في ذرية إبراهيم عليهالسلام من يعبد الله ويوحده» (٥).
(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))
قوله (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) إضراب عن حال أهل مكة ، لأنه تعالى أخبر للنبي عليهالسلام أن قومك هؤلاء من عقب إبراهيم فلم يوحدوني بل متعتهم بالمد في العمر والنعمة (وَآباءَهُمْ) فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعم واتباع الشيطان عن كلمة التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ) أي القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) [٢٩] أي ظاهر الرسالة بما معه من الآيات البينة الفارقة بين الحق والباطل ، ف (حَتَّى) غاية لسبب التمتيع (٦) وهو اشتغالهم بالاستمتاع فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عن هذه (٧) الغفلة ، ثم أخبر ثانيا عن حالهم عندها فقال (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ) أي القرآن (قالُوا) بما هو أقبح من غفلتهم وهو (هذا) أي ما جاء به محمد عليهالسلام (سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) [٣٠] فكذبوه فلم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم عليهالسلام.
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ) هذا احتكام منهم على حكمة الله في تخيير (٨) محمد عليهالسلام من أهل زمانه للرسالة بقولهم استهزاء بالقرآن هلا نزل (هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحديهما ك (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ)(٩) وهما مكة والطائف ، قوله (عَظِيمٍ) [٣١] صفة (رَجُلٍ) ، أي رئيس بحسب الدنيا لا عظيم عند الله وهو الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود بالطائف ، فقال الله توبيخا لهم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي نعمته من الرسالة والنبوة فيجعلون من شاؤا رسولا مع عجزهم ، فالهمزة فيه للإنكار الموذن بالتجهيل ، يعني ليس لهم ذلك بل نحن نختار للرسالة من نشاء من عبادنا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) التي هي الرحمة الصغرى (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية ، يعني ما يعيشون (١٠) به من المنافع حلالا كانت أو حراما بحسب القسمة ، وهي أدنى من الرسالة التي هي الرحمة الكبرى فلم نترك اختيارها إليهم لحكمة نعلمها ، فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه ، وهو السلم الأعلى إلى حلول دار السّلام والطريق الموصل إلى حيازة حظوظ السعادة الباقية
__________________
(١) آلهة ، وي : آلهتهم ، ح.
(٢) أي ، ح : ـ وي.
(٣) الشعراء (٢٦) ، ٧٨.
(٤) تقال ، وي : يقال ، ح.
(٥) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٠٦ ؛ والبغوي ، ٥ / ٩٧.
(٦) التمتيع ، ح و : التمتع ، ي.
(٧) هذه ، ي : ـ ح و.
(٨) تخيير ، ح : تخير ، وي.
(٩) الرحمن (٥٥) ، ٢٢.
(١٠) يعيشون ، وي : تعيشون ، ح.