(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))
(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي يمنعكم (مَنْ) قضاء (اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) كالقتل (١) وغيره (أَوْ) من يصيبكم بسوء إن (أَرادَ) الله (بِكُمْ رَحْمَةً) أي خيرا كالعافية والنصرة ، وهذا من اختصار الكلام نحو قوله يتقلد سيفا أو رمحا بمعنى حاملا رمحا (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) أي قريبا (وَلا نَصِيراً) [١٧] أي مانعا.
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨))
قوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) أي المانعين من القتال (٢)(مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أي لأوليائهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) وهو كلمة يشترك فيها الواحد وغيره ، نزل فيمن كان يصد الناس ويثبطهم عن القتال مع النبي عليهالسلام وهم المنافقون كانوا يقولون لإخوانهم : هلموا إلينا وخلوا محمدا وأصحابه وهم قليلون ، أي قربوا أنفسكم إلينا فكلوا واشربوا ودعوا القتال معهم وكانوا يحضرون القتال ، فاذا غفل النبي عليهالسلام عنهم دخلوا بيوتهم (٣) ، فلذلك قال (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي الحرب (إِلَّا) اتيانا (قَلِيلاً) [١٨] وهو خروجهم مع المؤمنين ، ثم لا يرونهم في القتال أو يقولون إن لنا شغلا فيرجعون إلى المدينة.
(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))
قوله (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) حال من فاعل (يَأْتُونَ) ، أي لا يأتون الحرب إلا بخلاء بالظفر للمسلمين وبما يصل إليهم من الغيبة (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) أي خوف العدو (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في تلك الحالة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في رؤوسهم خوفا (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي دورانا كدوران أعين المغشى عليه من سكرات الموت جبنا وحذرا ولواذا بك ، فان من قرب من الموت ذهب عقله وشخص بصره فلا يطرف (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ) أي آذوكم بالغيبة والفحش (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي سليطة ، وقيل : «بسطوا ألسنتهم فيكم عند قسمة الغنيمة واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا : وفروا قسمتنا فانا قد شاهدنا القتال معكم وبنا نصرتم على أعدائكم» (٤) ، قوله (أَشِحَّةً) أي أضناء بكم حال من فاعل (سَلَقُوكُمْ) ، أي مشاحين المؤمنين عند القسمة حرصا (عَلَى الْخَيْرِ) وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) حقا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل جهادهم لنفاقهم ، وفيه إيذان أن كل عمل يوجد من المنافق باطل لا ثواب له وإيمانه كلا إيمان ، فلا يظن أن الإيمان باللسان يجدي عليه على أن الأعمال بلا تصحيح المعرفة كالبناء على الماء ، فهو هباء منثورا عند الله وبعث للمؤمن أن يحكم أساس عمله وهو الإيمان الصحيح (وَكانَ ذلِكَ) أي الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) [١٩] يعني أن أعمالهم حقيقة وخليقة بالإحباط لا يصرف عنه صارف.
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يحسب المنافقون لجبنهم المفرط لم ينهزموا فانصرفوا إلى المدينة عن الخندق لذلك (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية إلى المدنية (يَوَدُّوا) أي يتمنوا (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي خارجون عن المدينة إلى البدو وحاصلون بين الأعراب لئلا يقاتلوا (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي عن أخباركم وعما جرى عليكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي في الخندق ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) [٢٠] أي
__________________
(١) كالقتل ، وي : أي القتل ، ح.
(٢) من القتال ، ح ي : عن القتال ، و.
(٣) لعله اختصره من السمرقندي ، ٣ / ٤٣.
(٤) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٤٩.