(يُنْفِقُونَ) [٣] أي يخرجون عن أيديهم في سبيل الله ، والإنفاق : هو الإخراج عن اليد ، وهو يتناول صدقة الفريضة والتطوع ، قيل : نزلت هذه الآيات فيمن آمن من العرب. (١)
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))
ونزل فيمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى (٢)(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي بالقرآن كله ، وفيه تغليب للموجود على ما لم يوجد بعد من الآيات (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي ويؤمنون بالذي أنزل قبلك من التورية والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [٤] أي وبالدار الآخرة من دار الدنيا ، هم يعلمون بغير شك ، فلا يغفلون عنها ولا يعملون بما يعاتبون أو يعاقبون عليه ، وفي تقديم الآخرة وبناء (يُوقِنُونَ) على (هُمْ) تعريض لليهود والنصارى حيث قالوا : «لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى» ، وقالوا : «لن تمسنا النار إلا أياما معدودات» ، فانهم أثبتوا أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، لأن قولهم ليس بصادر عن إيقان ، فدل التقديم على التخصيص بأن إيقان من آمن بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز إلى ما أثبته الكفار بالإقرار من أهل الكتاب ، والإيقان علم بلا شك بعد أن لم يكن ، ولذا لا يطلق على علم الله يقين.
(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))
(أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (عَلى هُدىً) أي على بصيرة ورشد (مِنْ رَبِّهِمْ) في الدنيا ، يعني بين لهم طريق الفلاح قبل الموت (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٥] أي الفائزون بالجنة والناجون من النار يوم القيامة ، وتكرير «أولئك» للدلالة على أن كل واحد من الحكمين مستبد في تميزهم به عن غيرهم ، فكيف بهما ، وتوسط العطف بينهما تنبيه على تغايرهما في الحقيقة ، وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر الدلالة على أن ما بعده خبر لا صفة ، وأن المسند ثابت للمسند إليه دون غيره.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))
ثم ابتدأ بقصة الكفار بعد قصة المؤمنين بترك العطف للتباين الكلي بينهما فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا الحق وجحدوه وهو القرآن ونبوة محمد عليهالسلام (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) أي مستو لديهم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي الإنذار وعدم الإنذار ، والهمزة فيه لمجرد الاستواء لا للاستفهام ، وهذا المعنى صير الفعل في تقدير الاسم ، فوقع مبتدأ و «سواء» خبره مقدما عليه ، والجملة خبر «إن» ، قرئ (٣) بهمزتين محققتين وبتسهيل الثانية فقط ، وبتسهيلهما مع إدخال ألف بينهما وبابدالها ألفا ، المعنى : خوفتهم أم لم تخوفهم (لا يُؤْمِنُونَ) [٦] جملة مؤكدة لخبر «إن» ، أي لا يصدقون بك وبما جئت به من القرآن ، قيل : «هم المصرون على الكفر مثل كعب بن الأشرف وحي بن أخطب وأبي ياسر بن أخطب من رؤساء اليهود» (٤) ، وقيل : هم مشركو العرب (٥) ، فعلى هذا عام مخصوص باسلام من أسلم ومن لم يسلم إلى انتهاء الدنيا.
__________________
(١) عن مجاهد ، انظر الواحدي ، أبو الحسن علي بن أحمد ، أسباب النزول ، (تعليق وتخريج : الدكتور مصطفى ديب البغا) ، بيروت ، ١٤٠٨ ه ـ ١٩٨٨ م ، ١٩.
(٢) عن مجاهد ، انظر الواحدي ، ١٩.
(٣) «عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ» : قرأ قالون وأبو عمرو وأبو جعفر بتسهيل الهمزة الثانية بينهما وبين الألف مع إدخال ألف بينهما ، وقرأ ابن كثير ورويس بتسهيل الثانية من غير إدخال ولورش وجهان : الأول مثل المكي ورويس ، والثاني إبدالها ألفا ، ولهشام وجهان وهما التحقيق والتسهيل مع الإدخال في كل منهما وقرأ الباقون بالتحقيق بدون إدخال. انظر البدور الزاهرة ، ٢٠.
(٤) قاله الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٩١ ـ ٩٢.
(٥) أخذه عن البغوي ، ١ / ٣٩.