العلماء على حجية الإجماع ، فلم نجد فيها ما يشير إلى حجية إجماع المحققين. فالاستدلال اذن بالإجماع في غير موضعه ، لعدم قيام الدليل على حجية مثله ، على أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.
٢ ـ انضباط المذاهب وكثرة الاتباع ومناقشتهما :
وهاتان العلتان ـ سواء أراد بهما التعليل لأصل الحكم أم للإجماع ـ غريبتان عن الأدلة جدا ، إذ متى كانت كثرة الاتباع وانضباط المذاهب من الحجج المانعة عن الأخذ بقول الغير ، وربما كان الغير أعلم وأوصل إلى الحكم الواقعي ، وفتواه موجودة محررة يمكن الحصول عليها ، كما إذا كان معاصرا للمستفتي يمكنه الرجوع إليه بسهولة.
على أني لا أكاد أفهم كيف تكون القابليات المبدعة وقفا على فئة من الناس عاشوا في عصور معينة (ولم يتميزوا في عصورهم بظاهرات غير طبيعية)؟ مع ان طبيعة التلاقح الفكري توجب خلق تجارب جديدة في مجالات الاستنباط ، والعقول لا تقف عند حد ، فكيف يمكن ان يقال لأصحاب هذه التجارب ـ الذين ملكوا تجارب القدماء ودرسوها وناقشوها وأضافوا عليها من تجاربهم الخاصة ـ : ان هؤلاء القدماء أوصل منكم وأعلم ، وعليكم تمجيد عقولكم والأخذ بما يقولون وإن بدت لكم مفارقات ما جاءوا به من آراء؟!
وما أحسن ما قاله الأستاذ المراغي ، وهو ينعى على دعاة الجمود موقفهم من حرية الفكر : «ليس مما يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر أن يقال عنها ان ما يدرس فيها من علوم اللغة والمنطق والكلام والأصول لا يكفي لفهم خطاب العرب ، ولا لمعرفة الأدلة وشروطها ، وإذا صح هذا فيا لضيعة الأعمار والأموال التي تتفق في سبيلها» (١) ، ثم يقول : «واني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة
__________________
(١) المراغي في بحثه السابق في رسالة الإسلام : س ١ ـ ج ٣ ص ٣٥٠ وما بعدها.