المنير الإسكندري في الشرح : غاية في الصناعة ونهاية في البراعة (١).
الوجه الثالث : أن ترد السورة مصدّرة بذلك ، ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلّا بوجه من الإعراب ، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها ، كانت العرب فيه مستوية الأقدام ، الأمّيّون منهم وأهل الكتاب ، بخلاف النطق بأسامي الحروف ، فإنّه كان مختصّا بمن خطّ وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلّم منهم. وكان مستغربا مستبعدا من الأمّي التكلّم بها ، استبعاد الخطّ والتلاوة ، كما قال عزوجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(٢). فكان حكم النطق بذلك ـ مع اشتهار أنّه لم يكن ممّن اقتبس شيئا من أهله ـ حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن ، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها ، في أنّ ذلك حاصل له من جهة الوحي ، وشاهد بصحّة نبوّته ، وبمنزلة أن يتكلّم بالرطانة (٣) من غير أن يسمعها من أحد (٤).
وقال أبو مسلم : المراد بذلك ، أنّ هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته ولم تقدروا على الإتيان بمثله هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في كلامكم وخطابكم ، فحيث لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من فعل الله ، وإنّما كررّت في مواضع ، استظهارا في الحجّة ؛ وحكي ذلك عن قطرب (٥).
***
وقال سيدنا الطباطبائي رحمهالله : إذا تدبّرت السّور المفتتحة بحروف مشتركة من هذه الحروف المقطّعة ، مثل الف لام ميمات والف لام راءات والطواسين والحواميم ، وجدتها متشابهة المضامين ومتناسبة السياقات. ويمكن أن يحدس أنّ بين هذه الحروف وبين مضامين تلك السور ارتباطا خاصّا. مثلا سورة الأعراف صدرت بقوله (المص) فكأنها جامعة بين مضامين الميمات وسورة ص. وكذلك سورة الرعد المصدّرة بقوله (المر) كأنها جامعة في مضمونها بين الميمات والراءات وهكذا.
ويستفاد من ذلك : أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم خفيّة عنّا ، لا نعلم منها
__________________
(١) المصدر : ٢٧ ، في الهامش رقم ٣.
(٢) العنكبوت ٢٩ : ٤٨.
(٣) الرطانة : التكلّم بالأعجميّة.
(٤) الكشاف ١ : ٢٨ ـ ٢٩.
(٥) التبيان ١ : ٤٨ ؛ مجمع البيان ١ : ٧٧ ، باختلاف يسير.