بعد أن لم يكن في
ذاته ذاك الكشف والدلالة ، لا أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ذاتيّة غير منوطة
بوضع الواضع ، فإنّ هذه الدعوى بديهيّة البطلان لا يتفوّه بها أحد.
ثمّ إنّ حقيقة
الوضع الصارف للدلالة من جانب إلى آخر والموجّه لها من مدلول إلى مدلول عبارة عن
التنزيل وادّعاء الوحدة والهويّة والعينيّة بين اللفظ والمعنى ، يعني أنّ لفظ «زيد»
المركّب من موادّ خاصّة بهيئة خاصّة هو بعينه ذاك الشخص الخارجي الموصوف بالصفات
الخاصّة الخارجيّة ، فصار ذاك الشخص الخارجي بعد هذا التنزيل وجودان : وجود عينيّ
خارجيّ ، وأخر لفظيّ ادّعائي. فإذا صار ذلك الشخص هو عين كلمة «زيد» وكلمة «زيد»
هي عين ذلك الشخص حصلت الإشارة بلفظ «زيد» إلى ذلك الشخص ، وكانت الإشارة باللفظ
إليه إشارة باللفظ إلى نفس اللفظ ؛ إذ قد فرض أنّ المعنى هو نفس اللفظ لا شيء
غيره. والحاجة الماسّة إلى هذا التنزيل وادّعاء العينيّة ، هي الحاجة إلى التعبير
عن المعاني والاشارة إليها ولمّا لم تكن آلة إشارة أسهل من اللفظ ، ولا شيء صارف
لدلالة اللفظ إلى المعنى سوى التنزيل وادّعاء العينيّة بين اللفظ والمعنى ، احتيج
إلى الوضع وتنزيل آحاد الألفاظ بموادّ مختلفة وتراكيب متفاوتة منزلة آحاد المعاني.
فتحصّل أن ليس
للوضع معنى سوى التنزيل ، ولا يترتّب الغرض المقصود على سواه ، وأنّ الوضع لا يحدث
دلالة في اللفظ لم تكن ، وإنّما يصرف دلالته من جانب إلى جانب.
وليكن هذا مراد
المشهور القائلين بأنّ دلالة الألفاظ بوضع الواضع ، يعني انصراف وجهة الدلالة يكون
بوضع الواضع ، وإلّا فأصلها ذاتيّة. وبما ذكرناه يحصل الالتئام بين الجانبين ،
ويرتفع النزاع من البين.
وقد توهّم بعض
المحقّقين ممّن عاصرناه أنّ الوضع عبارة عن البناء والتعهّد القلبي
__________________