الثالث : أن يأمر بأحد الضدّين مطلقا وبالآخر معلّقا على عدم ثبوت التأثير للأوّل في الإطاعة ، وعدم البعث والتحريك نحو متعلّقه.
وهذا هو محلّ النزاع ، ومنشأ البحث والنزاع هو البحث فيما هو مناط قبح الأمر بالضدّين في عرض واحد ، وأنّه هل يعمّ المقام ممّا كان الأمر بهما على سبيل الترتّب ، أولا؟
فالواجب استعلام المناط المذكور ليعلم أنّه هل يعمّ المقام ، أو لا؟
فاعلم أنّا إذا لاحظنا الطلب من مبدئه الأعلى إلى مقامه السافل ـ وهو مقام إنشائه وبعث المكلّف على طبقه ـ نرى أمورا متدرّجة مترتّبة. فأوّل ما نجد هو المصالح والمفاسد القائمة بالمتعلّقات ـ بناء على تبعيّة التكاليف لمناطات في المتعلّق ـ ثمّ من بعد ذلك نرى إدراك المولى لتلك المناطات وتصوّره لها ، ثمّ تصديقه بوجودها ، ثمّ شوقه إليها ـ بناء على أنّ الإرادة هي الشوق المؤكّد الناشئ من العلم بالصلاح دون نفس العلم بالصلاح ـ ثمّ بعثه نحو الفعل ، وهذا البعث بإزاء حركة العضلات لتحصيل المقدّمات في إرادة الفعل بالمباشرة.
وكلّ هذه المراتب كما تتحقّق في الأفعال الممكنة كذلك تتحقّق في الأفعال الممتنعة سوى البعث ؛ فإنّه وإن أمكن أيضا تحقّقه بالنسبة إلى الأفعال الممتنعة لكنّه قبيح ، فلذلك يقبح طلب الضدّين بمعنى البعث إليهما ؛ وذلك لأنّ البعث إنّما يكون لغاية انبعاث العبد ، وفيما لا يعقل الانبعاث لا يعقل البعث من الحكيم ؛ لكونه لغوا قبيحا. ولعلّنا نتعرّض لمعقوليّة أمر العصاة في مقام أنسب من هذا المقام. فالأمر بالضدّين محال وقبيح بمقام بعثهما لا بمقام إرادتهما ؛ وذلك لكونه بعثا نحو المحال لا أنّ اجتماعهما في ذاتهما محال.
وحينئذ نقول : إنّ لاجتماع البعثين مرتبتين : مرتبة اجتماعهما بذاتهما ، ومرتبة اجتماعهما بوصف كونهما باعثين محرّكين. أمّا اجتماعهما في ذاتهما ، فذلك ممّا لا مانع منه لعدم المضادّة بين ذات البعثين. وإنّما المضادّة بين وصفين مترشّحة من مضادّة المبعوث إليهما ، وفي الحقيقة المضادّة هي تلك المضادّة بعينها لا غيرها ، وحينئذ فإذا فرضنا بعثين ليس وصف باعثيّتهما نحو المتعلّق عرضيّين على أن يكون بعث كلّ منهما في [مستوى] سطح بعث الآخر وعرضه بل اختصّ اقتضاء أحدهما بموضوع عدم اقتضاء الآخر وفي وعاء عدم تأثيره ، لم يكن باجتماعهما بأس. بل كان اجتماعهما من قبيل اجتماع ذات البعثين لا اجتماعهما بما هما باعثان.