فمنفعته عامة لعموم الاحتياج إليه ، وفائدته مطلوبة لترتب بقاء الأحكام عليه ، فلذلك كانت معرفته من أقرب الوسائل إلى الاعتراف بالخالق ذي الصفات العلية ، ولا شكّ أن لهذه الأجرام المشار إليها والآثار مؤثرا وهو الإله الموجد للعقول والنفوس والأجسام الفلكية والعنصرية.
(وكنت) منذ زالت عني تمائم الطفولية ، ونيطت بي عمائم الرجولية ممن شغف بتعلم الطب ليالي وأياما وانهمك في دراسته على قدر الطاقة سنين وأعواما ، فنيطت بي خدمة العساكر البحرية في ثغر الإسكندرية المحمية ، وذلك إلى غاية سنة ست وخمسين ، ثم حدثت قواطع بين الدولة العلية والخديوية المصرية ، وكنت إذ ذاك ببر الشام ، فتشرفت بخدمة العساكر السلطانية نصرها رب البرية بجاه خير البرية إلى غاية ثمان وخمسين ، ثم أقمت بدمشق الشام معتنيا بمداواة أهلها الأماثل الأعلام إلى أن اجتمعت في محل حافل سنة تسعين ومائتين وألف ببعض الأطباء المسيحيين ، فشرعوا يتحادثون في كيفية تكون الأحجار الفحمية وفي أنها هل أشير إليها في التوراة والإنجيل أم لا؟ فبعد الأسئلة والأجوبة والقيل والقال وإجراء البحث والجدال حكموا وعولوا على أنه لا يوجد لها ذكر فيهما أصلا ، لا صريحا ولا إشارة تؤخذ منهما وتفهم فهما ، ثم خصصوا بي المقال ووجهوا إلي السؤال بأنه هل أشير إليها في القرآن الشريف ، أم صرح بذكرها في ذلك الكتاب المنيف؟ وإن لم يشر إليها فيه بشيء فكيف قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٣٨]. وإن أشير إليها فيه ، ففي أي موضع أشير إليها ، وفي أي سورة نص عليها؟ فتصدرت حينئذ للجواب ، وتلطفت في التفهيم والخطاب قدر طاقتي ووسعها ؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وتتبعت كلام كثير من العلماء ، وتصفحت ألوفا من مسائل الفصحاء البلغاء ، وتفردت في طلبه من كتب التفسير والطب القاصية ، ووقفت على كلام كثير من العلماء بهمة عالية مع زيادة الاجتهاد والجد والحرص والتعب والكد ، واجتنيت ولله الحمد من رياضها ثمار أشجار الأقلام ، واستخرجت من بحار سطورها فرائد فوائد المفسرين الأعلام ، وازدادت همتي من بعد وقوفي على حقيقة تكون الحجر المشار إليه ، فبينت كيفية تكون الحيوانات والنباتات والأجرام السماوية والأرضية والجواهر المعدنية ، مقتصرا غالبا على القول المعتمد عليه ، وأبرزت ذلك في ثلاثة أبواب كأنها بساتين أزهار أو حدائق معارف تفجرت منها الأنهار ، وأرجو من الله الكريم المنان ذي الفضل والجود والإحسان أن تتلقاها الناس بالقبول ، وإن عدت في نفسها بالنسبة لتفسير الأفاضل من الفضول ، وكنت مع ذلك منوطا بخدمة العلماء الأعلام ؛ لكي أكتسب حل الأمور الصعاب ؛ لتدركها العقول والأفهام ، فحينئذ ركبت جياد الشوق قبل مطايا السوق ، وتشاورت مع أرباب المعارف وأهل الإشارات ، فانحط الرأي على أن من اللازم لما قصدته من بيان كيفية التكونات التي ذكرتها ـ تأليف كتاب يشتمل على شرح الآيات القرآنية