جسم بعيد أربع ، وهكذا كما قلنا آنفا فلذلك كانت الشمس تجذب إليها سائر الكواكب السيارة لما أن الشمس أعظم منها وأما القوة الثانية وهي الدفع عن المركز فإنها تجعل الكواكب يتحرك على خط مستقيم ، فلما انضمت هذه القوة إلى الأولى جعلت الكواكب ترسم قطوعا حمائلية ، وعظم هذه القوة يكون على حسب القرب من الشمس فلذلك كانت البعيدة من الشمس بطيئة السير في ممرها وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممتلئات يختص بنوع من تلك الحركات ، وأيضا فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات مخصوصة فأسرعها هو المنطقة وكل ما كان أقرب إليه فهو أسرع حركة مما هو أبعد منه ، ثم إنه سبحانه جعل مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سببا لحصول المصالح في هذا العالم كما قال تعالى في أول سورة البقرة : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : الآية ٢٩] أي سواهن على وفق مصالح هذا العالم ، وهو بكل شيء عليم أي هو عالم بجميع المعلومات فيعلم أنه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم ، فهذا أيضا نوع عجيب في تسخير الله تعالى هذه الأفلاك والكواكب ، فالثوابت منها تنقسم بالنسبة إلى لمعانها إلى سبع مراتب فأولها ذات العظم الأول وثانيها : ذات العظم الثاني : وثالثها : ذات العظم الثالث ... إلى آخره ، ولا يمكن رؤية ذات العظم السابع إلا بالآلات وتوجد رتبة فوق ذات العظم السابع لا ترى أبدا إلا نادرا ولا يمكن أن يرصد منها بمجرد البصر إلا نحو أربعة الآف ويمكن بالاستعانة بالآلات أن يعد منها جملة آلاف ألوف فتكون داخلة تحت قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف : الآية ٥٤].
وربما جاء بعض المتعصبين والحمقى وقال : إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم ، ووضعته على خلاف المعتاد للقدماء ، فيقال لهذا المسكين : إنك لو تأملت في كتاب الله تعالى حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته ، وتقريره من وجوه :
(الأول) : أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى ، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها.
(الثاني) : أنه تعالى قال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)) [ق : الآية ٦]. فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه تعالى كيف بناها ، وكيف خلق كل واحدة منها :
(الثالث) : أنه تعالى قال : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)) [غافر : الآية ٥٧]. فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة