ولا يخفى أنّ حمل الكلام على تأويل مجاهد ومن يرى رأيه خروج بالآية عن مقتضى الفصاحة ، وتفكيك لنظمها. فإنّهم جعلوا الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار (يَظْهَرُونَ) بمعنى الماضي المنقطع. وجعلوا العائد غير المظاهر ، إذ المظاهرون على رأيهم أهل الجاهلية ، والعائدون أهل الإسلام ، فإذا ساغ فهم ذلك في رجل ظاهر في الجاهلية ، ثمّ ظاهر في الإسلام ، فكيف يسوغ في رجل لم يظاهر في الجاهلية ، أو لم يدرك الجاهلية أصلا؟
ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام ، وعليه ينطبق سبب النزول ، وأيضا فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة ، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟
وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية ، كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء ، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة.
وكذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات ، والعهد قريب.
وقالوا أيضا : أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم ، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته ، فأنزل الله فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار.
وقالوا أيضا : فما عدا تكرار اللفظ : إما إمساك ؛ وإما عزم ؛ وإنما فعل ، وليس واحد منها عودا لما قال ، فلا يكون الإتيان به عودا ، لا لفظا ولا معنى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة ، وقصة خولة تدفعه ، لأنّه لم ينقل التكرار ، ولا سأل عنه صلىاللهعليهوسلم ، وكذلك لم يسأل النبي صلىاللهعليهوسلم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة : أهذا ظهار مكرّر ، أم هو أول ظهار؟
وأما حديث عائشة فما أصحّه ، وما أبعد دلالته على ما قالوا ، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة ، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله تحريم الظهار ، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس ، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة ، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها ، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا.
أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى :