إعدادات

في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الثعالبي [ ج ٢ ]

486/538
*

سفر ، وتحيّلت لمضيّه إليه ، ثم خرجت هي إلى غار ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته في الغار ، وكانت تتفقّده فوجدته يتغذّى بأن يمصّ أصابعه ، فيخرج له منها عسل وسمن ونحو هذا ، وحكي : بل كان يغذّيه ملك ، وحكي : بل كانت أمه تأتيه بألبان النّساء التي ذبح أبناؤهن ، والله أعلم ، أيّ ذلك كان ، فشبّ إبراهيم أضعاف ما يشب غيره ، والملك في خلال ذلك يحسّ بولادته ، ويشدّد في طلبه ، فمكث في الغار عشرة أعوام ، وقيل : خمس عشرة سنة ، وأنه نظر أول ما عقل من الغار ، فرأى الكواكب ، وجرت قصة الآية ، والله أعلم (١).

فإن قلنا بأنه وقعت له القصّة في الغار في حال الصّبوة ، وعدم التكليف ؛ على ما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ويحتمله اللفظ ، فذلك ينفسم على وجهين : إما أن يجعل قوله : (هذا رَبِّي) تصميما واعتقادا ، وهذا باطل ؛ لأن التصميم على الكفر لم يقع من الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ، وإما أن نجعله تعريضا للنظر والاستدلال ؛ كأنه قال : أهذا المنير البهيّ ربّي ؛ إن عضّدت ذلك الدلائل.

وإنا قلنا إن القصّة وقعت له في حال كبره ، وهو مكلّف ، فلا يجوز أن يقول هذا مصمّما ولا معرّضا للنظر ؛ لأنها رتبة جهل أو شكّ ، وهو ـ عليه‌السلام ـ منزّه معصوم من ذلك كلّه ؛ فلم يبق إلّا أن يقولها على جهة التّقرير لقومه والتوبيخ لهم ، وإقامة الحجّة عليهم في عبادة الأصنام ؛ كأنه قال : أهذا المنير ربّي ، وهو يريد : على زعمكم ؛ كما قال تعالى : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧] ، أي : على زعمكم ، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركة الكوكب وأفوله أمارة الحدوث ، وأنه لا يصلح أن يكون ربّا ، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ، ثم في الشّمس كذلك ؛ فكأنه يقول : فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة ؛ أنها لا تصلح للربوبيّة ، فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها ؛ ويعضد عندي هذا التأويل قوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، قلت : وإلى ترجيح هذا أشار عياض في «الشفا» ؛ قال : وذهب معظم الحذّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكّتا لقومه ، ومستدلّا عليهم.

قال ع (٢) : ومثّل لهم بهذه الأمور ؛ لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك ، وهذا الأمر كلّه إنما وقع في ليلة واحدة ، رأى الكوكب ، وهو الزّهرة في قول

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٢ / ٣١٢)

(٢) ينظر : «المحرر» (٢ / ٣١٣)