بلا واسطة. وليس للنون سوى تجلّ واحد في مقام أشرف ، فإنه لا يدل تعدد التجليات ولا كثرتها على الأشرفيّة ، وإنما الأشرف من له المقام الأعم. فأمر الله النون أن يمدّ القلم بثلاثمائة وستين علما من علوم الإجمال ، تحت كل علم تفاصيل ، ولكن معيّنة منحصرة لم يعطه غيرها ، يتضمن كل علم إجمالي من تلك العلوم ثلاثمائة وستين علما من علوم التفصيل ، فإذا ضربت ثلاثمائة وستين في مثلها ، فما خرج لك فهو مقدار علم الله تعالى في خلقه إلى يوم القيامة خاصّة ، ليس عند اللوح من العلم الذي كتبه فيه هذا القلم أكثر من هذا ، لا يزيد ولا ينقص ، ولهذه الحقيقة الإلهية جعل الله الفلك الأقصى ثلاثمائة وستين درجة ، وكل درجة مجملة لما تحوي عليه من تفصيل الدقائق والثواني والثوالث إلى ما شاء الله سبحانه ، مما يظهره في خلقه إلى يوم القيامة ، وسمي هذا القلم الكاتب.
ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى أمر أن يولّى على عالم الخلق اثنا عشر واليا ، يكون مقرّهم في الفلك الأقصى منا في بروج ، فقسّم الفلك الأقصى اثني عشر قسما ، جعل كل قسم برجا لسكنى هؤلاء الولاة ، مثل أبراج سور المدينة ، فأنزلهم الله إليها فنزلوا فيها ، كل وال على تخت في برجه ، ورفع الله الحجاب الذي بينهم وبين اللوح المحفوظ ، فرأوا فيه مسطّرا أسماؤهم ومراتبهم وما شاء الحق أن يجريه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة ، فارتقم ذلك كله في نفوسهم وعلموه علما محفوظا لا يتبدّل ولا يتغيّر (١)». وقال في الباب الثاني الذي وضعه لمعرفة مراتب الحروف ـ الفصل الأول ـ :
«ثم إنّه في نفس النون الرقمية (ن) التي هي شطر الفلك من العجائب ما لا يقدر على سماعها إلّا من شدّ عليه مئزر التسليم ، وتحقق بروح الموت الذي
__________________
(١) الفتوحات المكيّة ، ج ١ ، ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥.