صرح به في وصيته التي أملاها عند موته ـ فلهذا كان يستفرغ وسعه ، ويكدّ قريحته في تقرير شبه الخصوم ، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال ، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه ، لاستفراغه قوّتها في تقرير الشبه. ونحن نعلم بالنفسية الوجدانية ، أنّ أحدنا إذا استفرغ قوّة بدنه في شغل ما من الأشغال ، ضعف عن شغل آخر ، وقوى النفس على وزان قوى البدن غالبا. وقد ذكر في مقدمة كتاب «نهاية العقول» ما يدل على صحة ما أقول ؛ لأنه التزم فيه أن يقرّر مذهب كل خصم ، لو أراد ذلك الخصم تقريره ، لما أمكنه الزيادة عليه أو أوفى بذلك. ولهذا السبب قرر في كتاب «الأربعين» أدلّة القائلين بالجهة ، ثم أراد الجواب عنها ، فما تمكن منه على الوجه ، فغالط فيه في موضعين قبيحين ، ذكرهما في مواضع كثيرة (١).
ومما بحث على أصول مذهبه الأشعري في ظاهر الأمر ما ذكر عند تفسير الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢).
قال : احتج أهل السنة ـ يعني بهم الأشاعرة ـ بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣) ، وقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ إلى قوله ـ (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)(٤) ، وقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(٥) احتجوا بأمثال هذه الآيات على جواز تكليف ما لا يطاق.
ثم أخذ في تقرير هذا الاحتجاج من وجوه خمسة :
__________________
(١) الإكسير في علم التفسير ، ص ٢٦ ـ ٢٧. تحقيق عبد القادر حسين.
(٢) البقرة / ٦.
(٣) يس / ٧.
(٤) المدثّر / ١٧.
(٥) تبت / ١.