وأمثال هذه التفاسير ممّا كتب على الألواح أو في صحائف ذلك العهد كثير ، كانت تقتضيه طبيعة الأخذ والتلقّي ذلك الحين ، وقد قلّ الاعتماد على الحفظ والضبط في الصدور.
غير أنّ هذه التفاسير كانت مقتصرة على نقل المعاني وروايتها عن التابعين والأصحاب ، وثبتها في الدفاتر خشية الضياع ، ولم يكن التفسير قد توسّع أو دخله الاجتهاد في شكل ملحوظ.
ولعلّ أوّل من توسّع في التفسير وضمّ إلى جانب المعاني جوانب أخر ولا سيّما التعرّض لأدب القرآن وذكر خصائص اللّغة ، واجتهد في ذلك ، هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء المتوفّى سنة (٢٠٧).
يذكر ابن النديم في «الفهرست» أنّ أبا العبّاس ثعلب قال : كان السبب في إملاء كتاب الفرّاء في معاني القرآن ، أنّ عمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل. فكتب إلى الفرّاء : أنّ الأمير الحسن بن سهل ، ربّما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن ، فلا يحضرني فيه جواب. فإن رأيت أن تجمع لي أصولا ، أو تجعل في ذلك كتابا ، أرجع إليه فعلت. فقال الفرّاء لأصحابه : اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن ، وجعل لهم يوما ، فلمّا حضروا خرج إليهم ، وكان في المسجد رجل يؤذّن ويقرأ بالناس في الصلاة. فالتفت إليه الفرّاء ، فقال له : اقرأ بفاتحة الكتاب نفسّرها ، ثمّ نوفي الكتاب كلّه. فقرأ الرجل ويفسّر الفرّاء. قال أبو العبّاس : لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أنّ أحدا يزيد عليه (٥).
__________________
(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ٤٠٣ ـ ٤٠٤.
(٥) الفهرست لابن النديم ، ص ١٠٥.