قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ؛ أي أن الصلح عن القصاص على شيء من الدية أو غير ذلك تسهيل من ربكم عليكم ، رحمة رحمكم الله بها ؛ وذلك أن الله كتب على أهل التوراة في النفس والجراح أن يقيدوا ولا يأخذوا الدية ولا يعفوا ، وعلى أهل الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدية ، فخيّر الله هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو.
قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٨) ؛ أي إذا قتل الوليّ قاتل وليه بعد أخذ الدية منه فله عذاب أليم : القتل في الدنيا والنار في الآخرة ، ومن قتل بعد أخذ الدية يقتل ولا يعفى عنه ، قال صلىاللهعليهوسلم : [لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدّية](١).
وفي هذه الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرا ولا يخلد في النار ؛ لأن الله تعالى خاطبهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ) وقال في آخر الآية : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فسمّى القاتل أخا للمقتول ، وقال تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وهما يلحقان المؤمنين دون الكفار. ويروى أن مسروقا : (سئل هل للقاتل توبة؟ فقال : لا أغلق بابا فتحه الله).
قوله عزوجل : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ؛ يعني أن الذي يريد قتل غيره إذا علم أنه إذا قتل قتل ؛ أمسك عن القتل وارتدع ؛ فيكون ذلك حياة له وحياة للذي همّ بقتله ، وفي بقائهما بقاء لمن يتعصب لهما ؛ لأن الفتنة تنبئ بالقتل ؛ فتؤدي إلى المحاربة التي لا منتهى لها. وقيل : أراد الآخرة بذلك لا من اقتصّ منه في الدنيا حيّ في الآخرة ، وإذا لم يقتصّ منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة ؛ فمعنى الحياة سلامته في الآخرة. قوله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا ذوي العقول ، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) ؛ أي لكي تتقوا القتل مخافة القصاص.
__________________
(١) رواه أبو داود في السنن : كتاب الديات : باب من قتل بعد أخذ الدية : الحديث (٤٥٠٧) عن جابر بن عبد الله. والإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٣٦٣.