وهي عينها النسخة التي كان جمعها أبو بكر. ثم أخذ المسلمون ينسخون عن هذه النّسخ ليس غير ، ولم يبق إلّا مصحف عثمان برسمه. ولمّا وجدت المطابع صار يطبع المصحف عن هذه النسخة بنفس الخطّ والإملاء.
والفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته ، لأنه وإن كان مكتوبا في صحف ولكنه لم يكن مجموعا في موضع واحد ككتاب واحد ، فجمعه في صحائف. وجمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأه بلغاتهم على اتّساع اللّغات فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض ، فخشي من تفاقم الأمر فنسخ تلك الصّحف في مصحف واحد.
فالمصحف الذي بين أيدينا هو عينه الذي نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو عينه الذي كان مكتوبا في الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو عينه الذي جمعه أبو بكر حين جمع الصّحف في مكان واحد ، وهو عينه الذي نسخ عنه عثمان النّسخ السبعة وأمر أن يحرق ما عداها ، وهو عينه القرآن الكريم في ترتيب آياته بالنسبة لبعضها وترتيبها في سورها وفي رسمه وإملائه. وأما النسخة التي أملاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الوحي وجمعت صحفها وجرى النسخ عنها ، فإنّها ظلّت محفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين إلى أن كان مروان واليا على المدينة فمزّقها ، إذ لم يعد لها لزوم على حدّ تقديره بعد أن انتشرت نسخ المصاحف في كلّ مكان. عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال : [كان مروان يرسل إلى حفصة ـ يعني حين كان أمير المدينة من جهة معاوية ـ يسألها الصّحف الّتي كتب منها القرآن فتأبى أن تعطيه ، قال سالم فلمّا توفيّت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلنّ إليه تلك الصّحف فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان فشقّقت ، وقال : إنّما فعلت هذا لأنّي خشيت إن طال بالنّاس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصّحف مرتاب](١).
__________________
(١) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف : ص ٣٢. ينظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ٢٤ : شرح الحديثين (٤٩٨٧ و ٤٩٨٨) وقد سبق ابن كثير في فضائل القرآن ص ٢٤ فقال : رواه أبو بكر بن أبي داود ـ أي في كتاب المصاحف ـ وقال : (إسناده صحيح).