ثامنا : في التآخي والتآلف بين المسلمين
كان العصر الجاهلي مسرحا للمآسي والأرزاء في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية والمادية ، وكان من أبشع مآسيه ذلك التسيب الخلقي والفوضى المدمرة مما صيرهم يمارسون التنافر والتناحر والفتك والنهب والسلب.
فلما أشرق نور الإسلام ، استطاع بمبادئه الخالدة ودستوره العظيم أن يداوي تلك الأمراض ويكافح تلك الانحرافات في العقيدة والسلوك ، فانشأ بعد ذلك (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(١) علما وأخلاقا ، فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية ، وخلفتها المبادئ الإسلامية السامية ، وراح رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ببني أمة مثالية تبز الأمم نظاما وأخلاقا وكمالا .. وكلما سار المسلمون أشواطا تحت راية القرآن وقيادة الرسول (صلىاللهعليهوآله) توغلوا في معارج الكمال حتى حققوا مبدأ المؤاخاة بما لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلا ، وغدا المسلمون أمة واحدة ، مرصوصة الصف لا تفرقهم النعرات القبلية والفوارق الاجتماعية ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢).
وقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٣).
واستلهم الإمام الباقر (عليهالسلام) هذه القواعد الأخلاقية والأسس التربوية وصبها في قوالب متعددة ، فمرة يوجه أنظار المسلمين لما في التآخي والألفة من تعميق للأواصر الاجتماعية على شكل وصية أخلاقية ومرة أخرى يحذرهم من التنافر والتخاصم على شكل تفسير لآية قرآنية ، وإليك هذا النموذج التفسيري :
ورد عن الإمام الباقر (عليهالسلام) في تفسير قوله تعالى : (... فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ...)(٤) إنه قال : أن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما
__________________
(١) آل عمران / ١١٠.
(٢) الحجرات / ١٣.
(٣) الحجرات / ١٠.
(٤) الأنفال / ١.