ثانيا : إن
تفنيد هذه الشبهة يكمن في أن القرآن الكريم تحدّاهم في مادتهم الكلامية ، وفي
صنعتهم البيانية ، فلم يفلحوا. فالقرآن لم يتحداهم في لغة غير لغتهم ، أو في بيان
غير بيانهم ، أو في كلام غير كلامهم ، أو مفردات غير مفردات لغتهم ، بل ذهب أبعد
من ذلك ؛ فالقرآن في إعجازه ، وليثبت تحدّيه لم يكلفهم أن يأتوا حتى بنفس صورته
الكلامية ، أو بنفس أسلوبه المتبع ، أو منهاجه المعين. وإنّما تحداهم أن يأتوا بكلام
شبيه إلى حد ما بكلام القرآن ، أو أسلوب يقترب في خصائصه ، وسماته ، أو منهاج
يقارب القرآن في بيانه حتى ولو كان على غير صورة القرآن البيانية. المهم بالنسبة
لتحدي القرآن ألّا يأتوا بكلام يطيش في الميزان إذا قيس هو ، والقرآن بمقياس واحد
من البيان كما يقول شيخنا الزرقاني. والمهم في تحدي القرآن لهم ، وكما يقول شيخنا
دكتور دراز : «أنّنا حين نتحدى النّاس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته
الكلامية. كلا. ذلك ما لا نطمع فيه ، ولا ندعو المعارضين إليه. وإنّما نطلب كلاما
أيّا كان نمطه ، ومنهاجه ، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيّا كانت فطرته ، ومزاجه
، وبحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية ، حاذاه ، أو قاربه في ذلك
المقياس ، وإن كان على غير صورته الخاصة. فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو
المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء ، وفيه يتماثلون ، أو
يتقاربون. وذلك غير المعارض ، والصور المعينة التي لا بدّ من الاختلاف فيها بين
متكلم ، ومتكلم» .
وكما يمثل على
ذلك علماؤنا ، فإنّ الحالة هذه : كقوم استبقوا إلى غاية محدودة أو هدف واحد ، وكل
واحد سار في طريق رسم له وحده ، ولا يتعداه إلى طريق غيره من المتسابقين ، ويسير
موازيا لخصومه في الممشى ، والاتجاه. ثم يتفاوتون في السباق ، والسرعة ؛ فتجد
السابق
__________________