وثالثا : أنّه إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه الى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلّص عن ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبيّنة ، أمّا لو كان كلّه محكما لم يفتقر إلى التمسّك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.
ورابعا : أنّه لاشتماله على الأمرين افتقر الناظر فيه الى تعلّم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تحصيل ذلك الى تعلّم علوم كثيرة من علم اللّغة والنحو وعلم أصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان الى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.
وخامسا : وهو السبب الأقوى (عنده) في هذا الباب أنّ القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواصّ والعوامّ بالكليّة ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوامّ في أوّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم ، ولا بمتحّيز ، ولا مشار اليه ، ظنّ أنّ هذا عدم ونفي ، فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالّة على بعض ما يناسب ما يتوهّمونه ويتخيّلونه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدّل على الحقّ الصريح ، فالقسم الأوّل وهو الّذي يخاطبون به في أوّل الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الّذي يكشف لهم في آخر الأمر وهو المحكمات ، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله اعلم بمراده (١). هذه الوجوه وإن سبقه غيره من المفسّرين في جلّها أو كلّها بل يوجد في كلام بعض المفسّرين منّا إلّا أنها غير حاسمة لمادّة الأشكال ، بل منها ما يؤيّد أصل السؤال ، لضعف الأوّل بأن الوصول الى الحق حينئذ متعسّر بل
__________________
(١) التفسير الكبير تأليف الفخر الرازي ج ٧ ص ١٧٢.