وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر والتمكين في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة ، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي : لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده بوجه من الوجوه.
(فَذَرْهُمْ) أي : اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم (يَخُوضُوا) أي : في باطلهم من مقالهم وفعالهم (وَيَلْعَبُوا) أي : يفعلوا في دنياهم فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان واشتغل أنت بما أمرت به (حَتَّى يُلاقُوا) أي : يلقوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم كشف الغطاء الذي أوّل مجيئه عند الغرغرة ، وتناهيه النفخة الثانية ، ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره ، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قاله البقاعيّ وابن عادل.
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) يجوز أن يكون بدلا من يومهم أو منصوبا بإضمار أعني (مِنَ الْأَجْداثِ) أي : القبور التي صاروا بتغييبهم فيها تحت وقع الحوافر والخف ، فهم بحيث لا يدفعون شيئا يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ ، فإنّ الجدث : القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم.
وقوله تعالى : (سِراعاً) أي : نحو صوت الداعي ذاهبين إلى المحشر ، حال من فاعل يخرجون جمع سريع كظراف في ظريف ، وقرأ قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) ابن عامر وحفص بضم النون والصاد ، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد على أنه مصدر بمعنى المفعول كما تقول هذا نصب عيني وضرب الأمير ، والنصب كل ما نصب فعبد من دون الله (يُوفِضُونَ) أي : يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إلى نصب ، أي : إلى غاية وهي التي ينتصب إليها بصرك ، وقال الكلبي : هو شيء منصوب علم أو راية. وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا يلوي أوّلهم على آخرهم.
وقوله تعالى : (خاشِعَةً) حال إما من فاعل يوفضون وهو أقرب ، أو من فاعل يخرجون وفيه بعد منه ، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة وفيه الخلاف المشهور. وقوله تعالى : (أَبْصارُهُمْ) فاعل ، والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله تعالى (تَرْهَقُهُمْ) أي : تغشاهم فتعمهم وتحمل عليهم ، فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع عليهم (ذِلَّةٌ) أي : ضد ما كانوا عليه في الدنيا ؛ لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة ، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.
(ذلِكَ) أي : الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي : يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب ، وأخرج الخبر بلفظ الماضي ؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة ، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة ، فقد رجع آخرها على أوّلها.
وما قاله البيضاويّ تبعا للزمخشري من أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» (١). حديث موضوع.
__________________
(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦١٧.