الخصوم يطلبون ذلك ، ولم يبق لي ما أوفي ، فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا ، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا ، فيقول الله تعالى : قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة ، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له : غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به ، فذلك يوم التغابن» (١).
وقال بعض علماء الصوفية : إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا ، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلىاللهعليهوسلم : «لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد» (٢).
تنبيه : استدل بعض العلماء بقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وهذا الاختصاص يفيد أن لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث ، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلىاللهعليهوسلم لحسان بن سعد : «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» (٣) ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه ، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا لأنه لا يخلو منه ، فإذا كان كثيرا أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به.
والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث ، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها ، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل ، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا (وَمَنْ يُؤْمِنْ) أي : يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار (بِاللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له (وَيَعْمَلْ) تصديقا لإيمانه (صالِحاً) أي : عملا هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر ، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء ، والرهبة والرغبة ، والنذارة والبشارة (وَيُدْخِلْهُ) أي : رحمة له وإكراما وفضلا (جَنَّاتٍ) أي : بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) وقرأ نكفر عنه وندخله ، نافع وابن عامر بالنون فيهما ، أي : نحن بما لنا من العظمة ، والباقون بالياء التحتية ، أي : الله الواحد القهار (خالِدِينَ) أي : مقدرين الخلود (فِيها) وأكده بقوله : (أَبَداً) فلا خروج لهم منها (ذلِكَ) أي : الأمر العالي جدا من الغفران والإكرام (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار ، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم.
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٣٧.
(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٣٧.
(٣) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢١١٧ ، ومسلم في البيوع حديث ١٥٣٣ ، وأبو داود في البيوع حديث ٣٥٠٠ ، والترمذي في البيوع حديث ١٢٥٠ ، والنسائي في البيوع حديث ٤٤٨٤ ، وابن ماجه في الأحكام حديث ٢٣٥٤.