(جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي : كل من وضع العبادة في غير موضعها ، أو هم الكافرون لقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير ، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم ، وقالوا : لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم إليه ، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم ، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله ، فكان عاقبة الفريقين في النار.
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : وكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان ، وطمع أهل الفسوق في الأحبار ، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب ، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان ، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج ، وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها ، فأتت أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج ، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت ، فلما كان من الغد أتته ، فقال مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته ، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم ، قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت ، فلما ولدت قالت : هو من جريج فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم؟ فقالوا : زنيت بهذه البغي فحلمت منك ، فقال : أين الصبيّ فجاؤوا به ، فقال : دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه ، وقال : يا غلام من أبوك ، فقال : فلان الراعي ، قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به ، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث : كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة» (١).
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان باللسان (اتَّقُوا اللهَ) أي : اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي : في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون ، والموت والآخرة لا بدّ من كل منهما ، وكل ما لا بدّ منه فهو في غاية القرب ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل : ذكر الغد تنبيها على أنّ الساعة قريبة كقول القائل : وإنّ غدا لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلها كغد ، لأنّ كل آت قريب ، والموت لا محالة آت. ومعنى (ما قَدَّمَتْ) أي : من خير أو شر ، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة ، كأنه قال : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال : الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد.
وقيل : كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل ، والثانية ترك
__________________
(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٥٠.