محتاجا لا محالة وإلا لدفع عنه من يمكن نزاعه وخلافه إياه فلا يكون صالحا للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإنجاء لكل من يوافقهم على ممر الزمان وتطاول الدهر ومر الحدثان على نظام مستمر وحال ثابت مستقر.
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ثبت قوله تعالى : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير وهو تنبيه على تمام دلائل التوحيد لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ويحال شيء من الأمر عليه فهما جملتان الأولى : نافية لما أثبتوه من الشركة ، والثانية ، مثبتة لما نفوه من البعث (رَبُّكُمْ) أي : الذي أفاض عليكم ما تشاهدونه من النعم في الأرواح وغيرها (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي : الذي أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ، ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة.
(بَلْ هُمْ) أي : بضمائرهم (فِي شَكٍ) أي : من البعث (يَلْعَبُونَ) أي : يفعلون دائما فعل التارك لما هو فيه من أخذ الجد الذي لا مرية فيه إلى اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه استهزاء بك يا أشرف الرسل فقال صلىاللهعليهوسلم : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» (١) قال تعالى : (فَارْتَقِبْ) أي : انتظر بكل جهد عاليا عليهم ناظرا لأحوالهم نظر من هو حارس لها (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي : ظاهر.
(يَغْشَى النَّاسَ) أي : المهددين بهذا فقالوا عند إتيانه (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه كما كنتم تؤلمون من يدعوكم إلى الله تعالى ، واختلف في هذا الدخان فروى أبو الصفاء عن مسروق قال : بينما رجل يحدث في كندة قال : يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا ، فأتينا ابن مسعود وكان متكئا فغضب فجلس فقال : من علم فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم : لا أعلم ، فإن الله تعالى قال لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] فإن قريشا أبطأوا عن الإسلام فدعاهم النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، فجاءه أبو سفيان فقال : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى لهم فقرأ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) إلى قوله تعالى (عائِدُونَ) وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانا. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين الأول : أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض فبسبب انقطاع المطر يرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ويقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان ، ولهذا يقال للسنة المجدبة الغبراء ، الثاني : أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه : أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٦٩٣ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٥٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٣١ ، ٤٤١.