القرآن في ليلة مباركة ، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل له إليه حاجة : أتشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك وجاء في الحديث : «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك لا أحصي ثناء عليك» (١). والمبين : هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبينا وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى لأن الإبانة حصلت به كقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة فكأنه ذو لسان ينطق مبالغة في وصفه.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى : (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فقال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين : هي ليلة القدر : وقال عكرمة وطائفة : إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان ، واحتج الأولون بوجوه ؛ الأول : قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] فقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) يجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض ، ثانيها : قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] فقوله تعالى ههنا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) يجب أن تكون هذه الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر ، ثالثها : قوله تعالى في صفة ليلة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر : ٤] وقال تعالى ههنا : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقال ههنا (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقال تعالى في ليلة القدر (سَلامٌ هِيَ) [القدر : ٥] وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى ، رابعها : نقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه ، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان ، والليلة المباركة هي : ليلة القدر ، خامسها : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ، ومعلوم أن قدرها وشرفها ليس بسبب نفس الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم ، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا ، وأعظم الأشياء وأشرفها شعبا في الدين هو القرآن لأنه ثبت به نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدرا وأعلى ذكرا وأعظم منصبا ، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وهذه أدلة ظاهرة واضحة ، واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بوجوه ؛ أولها : أن لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة ، وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
وقيل في تسميتها : ليلة البراءة والصك أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة وكذلك الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة ، ثانيها : أنها مختصة بخمس خصال الأولى : قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) والثانية : فضيلة العبادة فيها ، روى
__________________
(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٨٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٨٧٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٩٣ ، والنسائي في الطهارة حديث ١٦٩ ، وأحمد في المسند ٦ / ٥٨.