إعدادات

في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الخطيب الشربيني [ ج ٣ ]

تفسير الخطيب الشربيني [ ج ٣ ]

356/736
*

ومجلس وبيت ، وكان مما عملوه له بيت المقدس ابتدأه داود عليه‌السلام ورفعه قامة رجل فأوحى الله تعالى إليه أني لم أقض ذلك على يديك ، ولكن ابن لك اسمه سليمان عليه‌السلام اقضي تمامه على يديه فلما توفاه الله تعالى استخلف سليمان عليه‌السلام فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا ، وأنزل على كل ربض سبطا من الأسباط ، وكانوا اثني عشر سبطا ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقا يقتلعون الجواهر من الحجارة من أماكنها ، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى ، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا ، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة ، وفصص سقفه وحيطانه باللآلئ والياقوت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى ، وأن كل شيء فيه خالص لله تعالى واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا لله تعالى ، روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنتين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» (١) قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار ملكه من أرض العراق ، وبنى الشياطين باليمن لسليمان حصونا كثيرة عجيبة من الصخر (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال ، وهو كل شيء مثلته بشيء أي : كانوا يعملون له تماثيل أي : صورا من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك.

فإن قيل : كيف استجاز سليمان عليه‌السلام عمل التصاوير؟ أجيب : بأن هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبي العالية لم يكن اتخاذ التصاوير إذ ذاك محرما ، ويجوز أن تكون غير صور الحيوان كصور الأشجار ونحوها ، لأن التمثال كل ما صوره على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان ، أو بصور محذوفة الرؤوس ، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين في أعلاه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وقيل : كانوا يتخذون صور الأنبياء والملائكة والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل : إن هذا كان أول الأمر ، فلما تقادم الزمن قال لهم إبليس : إن آباءكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوا الأصنام ولم تكن التصاوير ممنوعة في شريعتهم كما أن عيسى عليه‌السلام كان يتخذ صورا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرا.

__________________

(١) أخرجه النسائي في المساجد حديث ٦٩٣ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٤٠٨.