(نُمَتِّعُهُمْ) أي : نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا (قَلِيلاً) أي : إلى انقضاء آجالهم فإن كل آت قريب ، وإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) أي : نلجئهم ونردّهم في الآخرة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : شديد ثقيل لا ينقطع عنهم أصلا ولا يجدون لهم منه محيصا من جهة من جهاته فكأنه في شدّته وثقله جرم عظيم غليظ جدّا إذا ترك على شيء لا يقدر على الخلاص منه.
ثم إنه تعالى لما سلى قلب النبيّ صلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي : لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا على أنه لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة كما قال تعالى : (وَلَئِنْ) اللام لام قسم (سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ) أي : بأسرها ومن فيها (وَالْأَرْضَ) كذلك وقوله تعالى (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي : المسمى بهذا الاسم حذف منه نون الرفع لتوالي الأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين ، فقد أقرّوا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته.
ولما تبين بذلك صدقه صلىاللهعليهوسلم وكذبهم قال الله تعالى مستأنفا (قُلِ الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال (لِلَّهِ) أي : الذي له الإحاطة الشاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره على ظهور الحجة عليهم بالتوحيد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك.
ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال استدلّ على ذلك بقوله تعالى : (لِلَّهِ) أي : الملك الأعظم (ما فِي السَّماواتِ) كلها (وَالْأَرْضِ) كذلك ملكا وخلقا فلا يستحق العبادة فيهما غيره.
ولما ثبت ذلك أنتج قطعا قوله تعالى (إِنَّ اللهَ) أي : الذي لا كفء له (هُوَ) أي : وحده (الْغَنِيُ) مطلقا لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه وليس محتاجا إلى شيء أصلا (الْحَمِيدُ) أي : المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم على الإطلاق المحمود بكل لسان من ألسنة الأحوال والأقوال لأنه هو الذي أنطقها ومن قيد الخرس أطلقها.
ولما قال تعالى (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما ، بين تعالى أنه لا حدّ ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) أي : كلها ، ودل على الاستغراق وتقضي كل فرد فرد من أفراد الجنس بقوله تعالى : (مِنْ شَجَرَةٍ) حيث وحدها (أَقْلامٌ) أي : والشجرة يمدّها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات وأنّ ما في الأرض من البحر مداد لتلك الأقلام (وَالْبَحْرُ) أي : والحال أنّ البحر (يَمُدُّهُ) أي : يكون مدادا له وزيادة فيه (مِنْ بَعْدِهِ) أي : من ورائه (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) تكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وفنيت الأقلام والمداد ، قال المفسرون : نزل بمكة قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء ، ٨٥] الآية فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال صلىاللهعليهوسلم : «كلّا قد عنيت ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنّا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال صلىاللهعليهوسلم : هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ، قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا