التكليف والاختيار والتزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف ، وأن يكون غير أصل ، وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فمن الصريح قوله لرجل أو امرأة زنيت أو زنيت ، أو يا زاني أو يا زانية ، ولو كسر التاء في خطاب الرجل وفتحها في خطاب المرأة أو زنيت في الجبل ، ومن الكناية زنأت وزنأت في الجبل بالهمز ، فإن نوى بذلك القذف كان قذفا وإلا فلا ، ومن التعريض يا ابن الحلال ، وأما أنا فلست بزان ، فهذا ليس بقذف وإن نواه.
فإن قيل : إذا كان ذلك القذف يشمل الذكر والأنثى فلم كانت الآية الكريمة في الإناث فقط؟ أجيب : بأن الكلام في حقهن أشنع وتنبيها على عظيم حق أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها ، وحدّ القاذف الحر ثمانون كما قال تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ) أي : أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم (ثَمانِينَ جَلْدَةً) لكل واحد منهم لكل محصنة وحدّ القاذف الرقيق ولو مبعضا أو مكاتبا أربعون جلدة على النصف من الحر لآية النساء (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ، ولا بين حدّ الزنا وحدّ القذف ، ويدل على أن المراد بالآية الأحرار قوله تعالى : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) أي : بعد قذفهم (شَهادَةً) أيّ شهادة كانت (أَبَداً) للحكم بافترائهم ؛ لأن العبد لا تقبل شهادته ، وإن لم يقذف. ولما كان التقدير أنهم قد افتروا عطف عليه تحذيرا من الإقدام عليه من غير تثبت (وَأُولئِكَ) أي : الذين تقدم ذمهم بالقذف فنزلت رتبتهم جدّا (هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف ، وإن كان القاذف منهم محقا في نفس الأمر. وفي ذلك دليل على أن القذف من الكبائر ؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة.
واختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، وحكم هذا الاستثناء المذكور في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي : رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره ، وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : الأمر الذي أوجب إبعادهم ، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب وصلح حاله كما قال تعالى : (وَأَصْلَحُوا) أي : بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال ، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطبائع (فَإِنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (غَفُورٌ) أي : ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه (رَحِيمٌ) أي : يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة ، وقبلت شهادته سواء قبل الحدّ وبعده وزال عنه اسم الفسق ، وقالوا : هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة ، وإلى الفسق ، ويروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وجمع من الصحابة وبه قال مالك والشافعي ، وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء رجع إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ،) ويروى ذلك عن النخعي وشريح ، وبه قال أصحاب الرأي قالوا : بنفس القذف لا تردّ شهادته ما لم يحد ؛ قال الشافعي : هو قبل أن يحدّ شر منه حين يحدّ ؛ لأن الحدود كفارات ، فكيف يردّ بها في أحسن حاليه ، وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة.
فإن قيل : إذا قلتم بالأول فما معنى قوله تعالى : (أَبَداً؟) أجيب : بأن معنى أبدا ما دام مصرا على القذف ؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ؛ يراد بذلك ما دام على كفره ، فإذا أسلم قبلت شهادته.
تنبيهان : الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين أو أربع كالزنا؟ فيه قولان : أصحهما أنه يثبت