وتعالى خير النعت عزيز الوصف ، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره ، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه ، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى : (اللهُ) أي : الملك الأعلى (يَصْطَفِي) أي : يختار ويختص (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسّلام (وَمِنَ النَّاسِ) كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم وعليهم نزلت حين قال المشركون : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص ، ٨] فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الجلال والجمال (سَمِيعٌ) لمقالتهم (بَصِيرٌ) بمن يتخذه رسولا.
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : الرسل (وَما خَلْفَهُمْ) أي : علمه محيط بما هم مطلعون عليه ، وبما غاب عنهم ، فلا يفعلون شيئا إلا بإذنه (وَإِلَى اللهِ) أي : وحده تعالى (تُرْجَعُ) بغاية السهولة (الْأُمُورُ) يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهرا لا خفاء فيه ، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد ، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون بضم التاء وفتح الجيم.
ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : تلبسوا بالإيمان (ارْكَعُوا) تصديقا لإيمانكم (وَاسْجُدُوا) أي : صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلا على صدقكم في الإقرار بالإيمان.
تنبيه : إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع ، فحسن التعبير بهما ، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون ، وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية ، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى : (وَاعْبُدُوا) أي : بأنواع العبادة (رَبَّكُمْ) أي : المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية ، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها ، أو قد يكون بلا نية ، فقال : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي : كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى ؛ قال أبو حيان : بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة ، ثم بعام وهو : واعبدوا ربكم ، ثم بأعمّ وهو : وافعلوا الخير (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين ، ولا تتكلوا على أعمالكم ، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ : لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير ، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكل ميسر لما خلق له.
تنبيه : اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها ، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلىاللهعليهوسلم : «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» (١) حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه ، وذهب قوم إلى
__________________
(١) أخرجه الترمذي في الجمعة حديث ٥٧٨ ، ومالك في القرآن حديث ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٥١.