فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد بعد الهجرة ، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف ، وألحق به مطلق الموت فضلا منه بقوله تعالى : (أَوْ ماتُوا) أي : من غير قتل (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) أي : الجامع لصفات الكمال (رِزْقاً حَسَناً) هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم ؛ لأنهم أحياء عند ربهم (وَإِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة (لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر.
فإن قيل : الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال : (لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؟) أجيب : بأنّ غير الله يسمى رازقا على المجاز كقولهم : رزق السلطان الجيش أي : أعطاهم أرزاقهم ، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى ، ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالا على ختام التي قبل : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه ، وقيل : هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع ، وقرأ نافع بفتح الميم أي : دخولا ، أو مكان دخول ، والباقون بالضم أي : إدخالا أو مكان إدخال (وَإِنَّ اللهَ) أي : الذي عمت رحمته وتمت عظمته (لَعَلِيمٌ) أي : بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره (حَلِيمٌ) عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى ، فلا يعاجل أحدا بالعقوبة.
روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين
(ذلِكَ) أي : الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك (وَمَنْ عاقَبَ) أي : جازى من المؤمنين (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ظلما من المشركين أي : قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي : ظلم بإخراجه من منزله ، قال مقاتل : نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم ، فقال بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام ، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام ، فأبى المشركون ، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي : الذي لا كفء له (إِنَّ اللهَ) أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما (لَعَفُوٌّ) عن المؤمنين (غَفُورٌ) لهم.
فإن قيل : لم سمى ابتداء فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء؟ أجيب : بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ، ٤٠](يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء ، ١٤٢] ، وكما في قوله : كما تدين تدان.
فإن قيل : كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين ؛ لأنهم مظلومون؟ أجيب : بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام ، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى ، ٤٣] وبقوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى ، ٤٠] وبقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ، ٢٣٧] ، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال : عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له ،