ثم أمره الله تعالى أن يخبر بالإجابة بقوله تعالى : (وَقُلْ) أي : لأوليائك وأعدائك (جاءَ الْحَقُ) وهو ما أمرني به ربي وأنزله إليّ (وَزَهَقَ) أي : اضمحل وبطل وهلك (الْباطِلُ) وهو كل ما يخالف الحق ثم علل زهوقه بقوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ) أي : وإن ارتفعت له دولة وصولة (كانَ) في نفسه بجبلته وطبعه (زَهُوقاً) أي : لا يبقى بل يزول على أسرع الوجوه وقت وأسرع رجوع قضاء قضاة الله تعالى من الأزل ـ قوله على أسرع الوجوه وقت الخ هكذا في جميع النسخ ولعله على أسرع الوجوه كل وقت ويرجع اه.
روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود قال : «دخل النبيّ صلىاللهعليهوسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما صنم كل قوم بحيالهم فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) فجعل الصنم ينكب لوجهه» (١) حديث وعن ابن عباس كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها ويخرون لها فشكى البيت إلى الله تعالى فقال : ، أي : رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إلى البيت أني سأحدث لك نوبة جديدة فاملؤك خدودا سجدا يدفون إليك دفيف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج حولك بالتلبية.
ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح جاء جبريل عليهالسلام وقال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنما صنما وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان قوارير صفر فقال : «يا علي الزم به» فحمله رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى صعد ورمى به فكسره فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلا أسحر من محمد (٢). قال الزمخشري : وشكاية البيت والوحي إليه تخييل وتمثيل ولما بين سبحانه وتعالى الآلهيات والنبوّات والحشر والنشر والبعث وإثبات القضاء والقدر.
ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وكان القرآن هو الجامع لجميع ذلك أتبعه ببيان كونه شفاء ورحمة بقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : ما هو شفاء في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمريض.
تنبيه : في من هذه ثلاثة أوجه أحدها : أنه لبيان الجنس قاله الزمخشريّ والبيضاويّ وابن عطية وأبو البقاء ورد عليهم أبو حيان بأنّ التي للبيان لا بدّ أن تتقدّمها عليه ما تبينه لا أن تتقدّم عليه وهنا قد وجد تقديمها عليه. الثاني : أنها للتبعيض وأنكره الحوفي لأنه يلزم أن لا يكون بعضه شفاء. وأجاب أبو البقاء بأنّ منه ما يشفي من المرض وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيد الحيّ الذي لدغ بالفاتحة فشفي من المرض فيكون التبعيض بالنسبة للأمراض الجسمانية وإلا فهو كله شفاء للأبدان وللقلوب من الاعتقادات وغيرها. الثالث : أنها لابتداء الغاية وهو كما قال ابن عادل واضح.
(وَ) من العجيب أنّ هذا الشفاء (لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه بإعراضهم هما يجب قبوله (إِلَّا خَساراً) أي : نقصانا لأنه إذا جاءهم وقامت به الحجة
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٧ ، وباب ١٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٧٧.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٣٦٦ ، وابن حجر في الكاف ، الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ١٧٢.