ويعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني : أن تكون ما موصولة والتقدير : ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، وحذف لفظ فيه لكونه معلوما ، وقيل : اللام في لتفتروا لام العاقبة كما في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ، ٨]. فإن قيل : ما معنى وصف ألسنتكم الكذب؟ أجيب : بأنّ ذلك من فصيح الكلام وبليغه جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه وإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، أي : هي جميلة ، وعينها تصف السحر ، أي : هي ساحرة فلما أرادوا المبالغة في وصف الوجه بالجمال ووصف العين بالسحر عبروا بذلك.
ثم إنه تعالى أوعد المفترين بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ) أي : الذي له الملك كله (الْكَذِبَ) منكم ومن غيركم (لا يُفْلِحُونَ) أي : لا يفوزون بخير لأن المفتري يفتري لتحصيل مطلوب فنفى الله تعالى عنه الفلاح ، لأنه الفوز بالخير والنجاح.
ثم بين تعالى أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب بقوله تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : منفعة قليلة تنقطع عن قرب لفنائه وإن امتدّ ألف عام (وَلَهُمْ) بعده (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم في الآخرة.
ولما بين تعالى ما يحل ويحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما يخص اليهودية من المحرمات بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي : اليهود (حَرَّمْنا) عليهم عقوبة لهم بعداوتهم وكذبهم على ربهم (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) يا أجل المرسلين (مِنْ قَبْلُ) أي : في سورة الأنعام وهو قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام ، ١٤٦] الآية. (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي : بتحريم ذلك عليهم (وَلكِنْ كانُوا) أي : دائما طبعا لهم وخلقا مستمرّا (أَنْفُسَهُمْ) خاصة (يَظْلِمُونَ) بالبغي والكفر فضيقنا عليهم معاملة بالعدل وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة.
ولما بيّن تعالى هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جدّا استجلابا لكل ظالم ، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى :
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) وهو يتناول كل ما لا ينبغي فعله فيشمل الكفر وسائر المعاصي (بِجَهالَةٍ) أي : بسببها أو ملتبسين بها ليعمّ الجهل بالله وبقضائه وعدم التدبر في العواقب ، فكل من عمل سوءا إنما يفعله بالجهالة ، أما الكفر فلأن أحدا لا يرضى به مع العلم بكونه كفرا لأنه لو لم يعتقد كونه حقا فإنه لا يختاره ولا يرتضيه ، وأما المعصية فلأن العالم لم تصدر منه المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل ، فثبت أنّ كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : الذنب ولو كان عظيما واقتصروا على ما أذن فيه خالقهم (وَأَصْلَحُوا) بالاستمرار على ذلك (إِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره (مِنْ بَعْدِها) أي : التوبة (لَغَفُورٌ) أي : بليغ الستر لما عملوا من السوء (رَحِيمٌ) أي : بليغ الرحمة محسن بالإكرام فضلا منه ونعمة.
ولما دعاهم الله تعالى إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وكان إبراهيم عليه الصلاة والسّلام رئيس الموحدين لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ووصفه بتسع صفات.