الخلائق (بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.)
فإن قيل : هذه الآية مكرّرة؟ أجيب : بأنّ الأولى في القضاء بين الأنبياء وتكذيبهم وهذه عامّة. وقيل : بين المؤمنين والكفار. وقيل : بين الرؤساء والأتباع ، فإنّ الكفار وإن اشتركوا في العذاب فلا بدّ أن يقضي الله تعالى بينهم ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضا في الدنيا وخانه ، فيكون في ذلك القضاء تخفيف عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين ؛ لأنّ العدل يقتضي أن ينصف المظلومين من الظالمين ، ولا سبيل إليه إلا أن يخفف من عذاب المظلومين ، ويثقل في عذاب الظالمين.
وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أي : ما وعد به على لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم من البعث للجزاء ومن ثواب الطائع وعقاب العاصي (حَقٌ) لا شك فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي : الناس (لا يَعْلَمُونَ) أي : جاهلون عن حقيقة ذلك فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم لقصور عقلهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.
(هُوَ) أي : الذي يملك ما في السموات والأرض (يُحيِي وَيُمِيتُ) أي : قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الموت للجزاء وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب عامّ. وقيل : لأهل مكة (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : كتاب فيه ما لكم وعليكم وهو القرآن (وَشِفاءٌ) أي : دواء (لِما فِي الصُّدُورِ) أي : القلوب من داء الجهل ؛ لأنّ داء الجهل أضرّ للقلب من المرض للبدن ، وأمراض القلب هي الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة ، والقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها ؛ لأنّ فيه المواعظ والزواجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير ، فهو الشفاء لهذه الأمراض القلبية ، وإنما خص تعالى الصدر بالذكر ؛ لأنه موضع القلب وغيره وهو أعز موضع في الإنسان لمكان القلب فيه (وَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) أي : إكرام عظيم (لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم هم الذين انتفعوا به دون غيرهم.
واختلف في تفسيره قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فقال مجاهد وقتادة : فضل الله : القرآن ، ورحمته : ان جعلنا من أهله. وقال ابن عباس والحسن : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن. وعن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلا (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فقال : «بكتاب الله والإسلام» (١). وقال ابن عمر : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : تزيينه في قلوبنا. وقيل : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : الجنة. وقيل : فضل الله : القرآن ، ورحمته : السنن. ولا مانع من أن نفسر الآية بجميع ذلك إذ لا تنافي بين هذه الأقوال. والباء في بفضل الله وبرحمته متعلقة بمحذوف يفسره ما بعده تقديره : قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته. (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد المفعولين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليفرحوا بهما. فإنه لا مفروح به أحق منهما. (هُوَ) أي : المحدّث عنه من الفضل والرحمة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي : من حطام الدنيا ولذاتها الفانية. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٨٤.